الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم

                          هذه الآية في بيان حال الأعراب خاصة ، وهم بدو العرب طلبوا الإذن بالتخلف ، والذين تخلفوا بغير إذن ، عقب بيان حال منافقي الحضر في مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 504 ] وستأتي آيات أخرى في منافقي الأعراب ومؤمنيهم في الآيات 97 ، 98 ، 99 قال عز وجل : وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم المعذرون بالتشديد : اسم فاعل من التعذير كالمقصرون من التقصير . هكذا قرأ الكلمة جمهور القراء ، وقرأها يعقوب بالتخفيف من الإعذار ، وروي هذا عن ابن عباس ، ولكن من طريق الكلبي ، وكذا عن مجاهد . وقد تقدم في تفسير الآية 66 معنى العذر والاعتذار . والإعذار إبداء العذر ، ومنه المثل " أعذر من أنذر " وأعذر : ثبت له عذر - وقصر ولم يبالغ وهو يرى أنه مبالغ ، كأنه ضد - وكثرت ذنوبه وعيوبه ، وله معان أخرى كما في القاموس ( قال ) وقوله تعالى : وجاء المعذرون بتشديد " الذال " المكسورة أي : المعتذرون الذين لهم عذر ، وقد يكون المعذر غير محق ، فالمعنى : المقصرون بغير عذر اهـ . وزاد شارحه ، ومعنى المعذرون الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن . وهو هاهنا شبيه بأن يكون لهم عذر ، ويجوز في كلام العرب المعذرون بكسر العين المهملة . الذين يعذرون : يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم . قال أبو بكر : ففي المعذرين وجهان : إذا كان المعذرون من عذر الرجل فهو معذر فهم لا عذر لهم ، وإذا كان المعذرون أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين ، وأبدل منها " ذال " وأدغمت في " الذال " التي بعدها فلهم عذر . وقال أبو الهيثم في تفسير الآية معناه المعتذرون . يقال : عذر عذارا في معنى اعتذر ، ويجوز عذر الرجل يعذر عذرا فهو معذر . قال ومثله : هدى يهدي هداءإذا اهتدى . قال الله : أمن لا يهدي إلا أن يهدى ( 10 : 35 ) اهـ .

                          وقد أطال ابن منظور في الكلام على المادة والمراد منها في الآية .

                          والحكمة في القراءتين على اختلاف معاني الصيغتين بيان اختلاف أحوال أولئك الأعراب في أعذارهم ، فمنهم من له عذر صحيح هو موقن به ، ومن له عذر صوري لا حقيقي وهو يوهم أنه حقيقي عالما بأنه مخادع ، ومنهم من له عذر ضعيف هو في شك منه إن نوقش فيه عجز عن إثباته ومنهم من لا عذر له في الواقع فهو كاذب في انتحاله ، وهذا من إيجاز القرآن العجيب بالإتيان بلفظ مفرد يتناول هذه الأقسام كلها ، مبهمة إلا عند أهلها للحكمة الآتية المقتضية لإبهامها .

                          والمعنى : وجاء الذين يطلبون من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام ، من أولي التعذير والإعذار ، قال الضحاك : هم رهط [ ص: 505 ] عامر بن الطفيل جاءوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفاعا عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله : إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم " وقال ابن عباس : هم قوم تخلفوا بعذر بإذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقول : وظاهره أن عذرهم حق ، وهو يصدق ببعضهم دون بعض ، كمقابله الذي يذكر عن أبي عمرو .

                          وقعد الذين كذبوا الله ورسوله أي : وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب ، أي : أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما ، يقال - كما في الأساس - كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها ، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له . قال الأخطل :


                          كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا

                          وهؤلاء هم المنافقون الأقحاح . قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان مسيئا : قوم تكلفوا عذرا بالباطل ، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله : وجاء المعذرون وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون ، فأوعدهم الله بقوله : سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم الظاهر المختار أن هذا الوعيد يعود على ما قبله من الفريقين عاما في المكذبين ، وخاصا ببعض المعذرين كما هو المتبادر من قوله تعالى : ( منهم ) أي الأعراب الذين اعتذر بعضهم وقعد بعض ، فإن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كفار ، وأما المعتذرون فمنهم الصادق في عذره والكاذب فيه لمرض في قلبه ، أو لتكذيبه لله ورسوله ، وكل منهم يعرف نفسه فيحاسبها إذا وجد الوعيد موضعا للعبرة منها ، ولو جعل التبعيض لهم وحدهم لظل القاعدون الكاذبون بغير وعيد وهم شر من شرهم ، فلا يصح التبعيض فيهم وحدهم ، ومن ثم اقتضى التحقيق أن يوجه الوعيد إلى الذين كفروا منهم لكفرهم لا لاعتذارهم ، وإلى الذين قعدوا لكفرهم لا لقعودهم ، بل للكذب الذي كان سببه وهو عين الكفر ، وهو لم يذكر بصيغة الحصر ; لأن من القعود ما يكون بعذر من الأعذار المنصوصة في الآية التالية ، وهم أولو الضرر في قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ( 4 : 95 ) إلخ . فالإبهام لمستحقي هذا الوعيد من الفريقين [ ص: 506 ] من بلاغة القرآن التي امتاز بها إعجازه البياني ، وهذا العذاب الأليم يراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا كما تقدم في آخر الآية ( 74 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية