الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون

                          كان المنافقون يرتقبون الفرص للصد عن الإسلام بالطعن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشبه التي يظنون أنها توقع الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من الجانب الذي يوافق أهواءهم وقد كان منها قسمة الصدقات والغنائم . روى البخاري والنسائي ومصنفو التفسير المأثور عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : بينما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ " فقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " الحديث بطوله . قال ( أبو سعيد ) فنزلت فيهم : ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية . وروى ابن مردويه عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : لما قسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله : فأتيت النبي فذكرت له ذلك فقال : " رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ونزل : ومنهم من يلمزك في الصدقات وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : أتي النبي صلى الله عليه [ ص: 421 ] وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل ، فنزلت هذه الآية . وهنالك روايات أخرى يدل مجموعها على أن هذا القول قاله أفراد من المنافقين ، وكان سببه حرمانهم من العطية كما هو مصرح به في الآية ، وكانوا من منافقي الأنصار ، بل كان جميع المنافقين قبل فتح مكة من أهل المدينة وما حولها ، ولم يكن أحد منهم من المهاجرين ؛ لأن جميع هؤلاء السابقين الأولين أسلموا في وقت ضعف الإسلام ، واحتملوا الإيذاء الشديد في سبيل إسلامهم ، ولا من الأنصار الأولين كالذين بايعوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منى ، وقد تقدم في الكلام على غزوة حنين من هذا الجزء سبب حرمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأنصار من غنائم هوازن ، ومن استاء منهم ومن تكلم ، وإرضاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم ، ولكن الآية نص في قسمة الصدقات ، فجعل الغنائم سببا لنزولها من جملة تساهلهم فيما يسمونه أسباب النزول . قال تعالى : ومنهم من يلمزك في الصدقات اللمز : مصدر لمزه إذا عابه وطعن عليه مطلقا أو في وجهه ، وأما همزه همزا فمعناه عابه في غيبته ، وأصله العض والضغط على الشيء . والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وهي أموال الزكاة المفروضة ، يزعمون أنك تحابي فيها فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يكن عطاؤهم باستحقاق ، كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا أو كان لتأليف قلوبهم وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون أي : وإن لم يعطوا منها فاجأهم السخط أو فاجئوك به وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء ؛ لأنه لاهم لهم ، ولا حظ من الإسلام ، إلا المنعة الدنيوية كنيل الحطام . وقد عبر عن رضاهم بصيغة الماضي للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء في وقته وينقضي ، فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها ، وعبر عن سخطهم بـ " إذا " الفجائية ، وبفعل المضارع للدلالة على سرعته واستمراره . وهذا دأب المنافقين وخلقهم في كل زمان ومكان ، كما نراه بالعيان ، حتى من مدعي كمال الإيمان ، والعلم والعرفان .

                          ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله أي : ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من فضله بما أنعم عليهم من الغنائم وغيرها ، وأعطاهم رسوله بقسمه للغنائم والصدقات كما أمره الله تعالى وقالوا حسبنا الله أي : هو محسبنا وكافينا في كل حال سيؤتينا الله من فضله ورسوله أي : سيعطينا الله من فضله في المستقبل من الغنائم والكسب ؛ لأن فضله دائم لا ينقطع ، ويعطينا رسوله مما يرد عليه من الغنائم والصدقات زيادة مما أعطانا من قبل ، لا يبخس أحدا منا حقا يستحقه في شرع الله تعالى إنا إلى الله راغبون لا نرغب إلى غيره في شيء ؛ لأن بيده [ ص: 422 ] ملكوت كل شيء ، فإليه نتوجه ، ومنه نرجو أن يبسط لنا في الرزق بما يوفقنا له من العمل ، ويهبه لنا من النصر - لكان خيرا لهم .

                          الرغب بالتحريك يتعدى بنفسه ، يقال رغبه ، ويتعدى بـ " في " يقال : رغب فيه ، أي : أحب حصوله له وتوجه شوقه إلى طلبه ، ويتعدى بـ " عن " لضد ذلك ، فيقال : رغب " عنه ، ومنه : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( 2 : 13 ) وأما تعديته بـ " إلى فهو بمعنى التوجه إلى الغاية التي ليس بعدها غاية ، ولا ينبغي هذا إلا لله تعالى إذا أريد بالغاية ما بعد الأسباب المعروفة للبشر وهو مقام التوكل ؛ ولذلك لم يقل إنهم يقولون ، حسبنا الله ورسوله ، كما يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله ، فللرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كسب في الإيتاء بعد فضل الله تعالى ، ولكن المحسب الكافي هو الله وحده ، كما قال : أليس الله بكاف عبده ( 39 : 36 ) ؟ وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( 65 : 3 ) ولذلك استعمل في التنزيل بالصيغة الدالة على الحصر ، وما ثم إلا هذه الجملة في هذه السورة ومثلها في سورة القلم إنا إلى الله راغبون ( 68 : 32 ) وقوله تعالى لرسوله في سورة الانشراح : وإلى ربك فارغب ( 94 : 8 ) .

                          وإنما حذف جواب الشرط للعلم به من القرينة ، وتفصيل المعنى : ولو أنهم رضوا من الله بنعمته ، ومن الرسول بقسمته ، وعلقوا أملهم ورجاءهم بفضل الله وكفايته ، وما سينعم الله به في المستقبل ، وبعدل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القسمة ، وانتهت رغبتهم في هذا وغيره إلى الله وحده ، لكان خيرا لهم من الطمع في غير مطمع ، ولمز الرسول المعصوم من كل ملمز ومهمز ، صلوات الله وسلامه عليه . والآيتان تهديان المؤمن إلى القناعة بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها ، ثم بأن يوجه قلبه إلى ربه ، ولا يرغب إلا إليه في شيء من رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية ، لا إلى الرسول ، ولا إلى من دونه فضلا وعدلا وقربا من الله تعالى بالأولى ، فتعسا لعباد القبور ، والراغبين إلى ما دفن فيها من مهمات الأمور .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية