الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول

              ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون . صدر القطب الثالث : اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول .

              لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها . والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها ، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها ، والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع . والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة : إما لفظ ، وإما فعل ، وإما سكوت وتقرير . ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت ; لأن الكلام فيهما أوجز واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه ، أو بفحواه ومفهومه ، أو بمعناه ومعقوله ، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا . فهذه ثلاثة فنون المنظوم والمفهوم والمعقول .

              الفن الأول : في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع .

              ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام : القسم الأول : في المجمل والمبين ، القسم الثاني : في الظاهر والمؤول ، القسم الثالث : في الأمر والنهي ، القسم الرابع : في العام والخاص . فهذا صدر هذا القطب . أما المقدمة : فتشتمل على سبعة فصول : الفصل الأول : في مبدإ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف ، الفصل الثاني : في أن اللغة هل تثبت قياسا الفصل الثالث : في الأسماء العرفية ، الفصل الرابع : في الأسماء الشرعية ، الفصل الخامس : في اللفظ المفيد وغير المفيد ، الفصل السادس : في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة ، الفصل السابع : في المجاز والحقيقة . [ ص: 181 ]

              الفصل الأول : في مبدإ اللغات .

              وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية ، إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق ، وقال قوم : إنها توقيفية ، إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ، ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح وقال قوم : القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح . والمختار أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع . أما الجواز العقلي فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان . أما التوقيف فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك .

              وأما الاصطلاح فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها ، فيبتدئ واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح ; بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى ، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة ، وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا .

              أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ، ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة ، فالخوض فيه إذا فضول لا أصل له . فإن قيل : قال الله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها : } وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف ، فيدل على الوقوع ، وإن لم يدل على استحالة خلافه . قلنا : وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا ، إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات :

              أحدها : أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى ; لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى

              الثاني : أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره .

              الثالث : أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات ، وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } وقوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها } وهو على كل شيء قدير إذ يخرج عنه ذاته وصفاته .

              الرابع : أنه بما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن ، والغالب أن أكثرها حادثة بعد .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية