الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف

                                                                                                          87 حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر وهو أحمد بن عبد الله الهمداني الكوفي وإسحق بن منصور قال أبو عبيدة حدثنا وقال إسحق أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن يعيش بن الوليد المخزومي عن أبيه عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له فقال صدق أنا صببت له وضوءه قال أبو عيسى وقال إسحق بن منصور معدان بن طلحة قال أبو عيسى وابن أبي طلحة أصح قال أبو عيسى وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين الوضوء من القيء والرعاف وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم ليس في القيء والرعاف وضوء وهو قول مالك والشافعي وقد جود حسين المعلم هذا الحديث وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب وروى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه فقال عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأوزاعي وقال عن خالد بن معدان وإنما هو معدان بن أبي طلحة [ ص: 241 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 241 ] ( باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف ) بضم الراء الدم الذي يخرج من الأنف ، وأيضا الدم بعينه كذا في القاموس .

                                                                                                          قوله : ( حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ) اسمه أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن أبي السفر بفتح السين والفاء سعيد بن يحمد الكوفي ، روى عن عبد الله بن نمير وأبي أسامة وعبد الصمد بن عبد الوارث وغيرهم ، وعنه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، قال أبو حاتم شيخ مات سنة 258 ثمان وخمسين ومائتين كذا في الخلاصة ، وقال في التقريب صدوق يهم .

                                                                                                          ( وإسحاق بن منصور ) ابن بهرام الكوسج أبو يعقوب التميمي المروزي ثقة ثبت من الحادية عشرة كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة : هو أحد الأئمة المتمسكين بالسنة صاحب مسائل الإمامين أحمد وإسحاق رحال جوال واسع العلم ، عن ابن عيينة والنضر بن شميل وخلق ، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وقال ثقة ثبت ، مات سنة 251 إحدى وخمسين ومائتين ( قال أبو عبيدة ثنا وقال إسحاق أنا عبد الصمد بن عبد الوارث ) يعني قال أبو عبيدة في روايته ثنا عبد الصمد بلفظ التحديث ، وقال إسحاق في روايته أنا عبد الصمد بلفظ الإخبار ، وعبد الصمد بن عبد الوارث هذا هو ابن سعيد العنبري التنوري أبو سهل البصري الحافظ ، صدوق ثبت في شعبة ، من التاسعة مات سنة 207 سبع ومائتين .

                                                                                                          ( قال حدثني أبي ) هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري قال النسائي ثقة ثبت ، وقال الحافظ الذهبي : أجمع المسلمون على الاحتجاج به ، قال ابن سعد توفي سنة 180 سنة ثمانين ومائة .

                                                                                                          ( عن حسين المعلم ) هو الحسين بن ذكوان المعلم المكتب العوذي البصري ثقة ربما وهم قاله الحافظ ( عن يعيش بن الوليد المخزومي ) الأموي المعيطي ، روى عن أبيه ومعاوية وعنه يحيى بن أبي كثير والأوزاعي وثقه النسائي ( عن أبيه ) هو الوليد بن هشام بن معاوية بن هشام بن عقبة بن أبي معيط بالتصغير الأموي أبو يعيش المعيطي ، ثقة من السادسة .

                                                                                                          [ ص: 242 ] ( عن معدان بن أبي طلحة ) ويقال ابن طلحة اليعمري شامي ثقة قاله الحافظ .

                                                                                                          قوله : ( قاء فتوضأ ) قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي : الفاء تدل على أن الوضوء كان مرتبا على القيء وبسببه وهو المطلوب ، فتكون هي للسببية فيندفع به ما أجاب به القائلون بعدم النقض من أنه لا دلالة في الحديث على أن القيء ناقض للوضوء لجواز أن يكون الوضوء بعد القيء على وجه الاستحباب أو على وجه الاتفاق . انتهى .

                                                                                                          قلت : قوله قاء فتوضأ ليس نصا صريحا في أن القيء ناقض للوضوء لاحتمال أن تكون الفاء للتعقيب من دون أن تكون للسببية ، قال الطحاوي في شرح الآثار وليس في هذين الحديثين - يعني في حديث أبي الدرداء وثوبان بلفظ قاء فأفطر - دلالة على أن القيء كان مفطرا له إنما قاء فأفطر بعد ذلك . انتهى .

                                                                                                          ( فلقيت ثوبان ) قائله معدان بن أبي طلحة ( فذكرت ذلك له ) أي فذكرت لثوبان أن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ ( فقال ) أي ثوبان ( صدق ) أي أبو الدرداء ( أنا صببت له ) صلى الله عليه وسلم ( وضوءه ) بفتح الواو أي ماء وضوئه .

                                                                                                          ( وقال إسحاق بن منصور معدان بن طلحة ) بحذف لفظ أبي ( وابن أبي طلحة أصح ) بزيادة لفظ " أبي " كما في رواية أبي عبيدة .

                                                                                                          قوله : ( وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين الوضوء من القيء والرعاف وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ) وهو قول الزهري وعلقمة والأسود وعامر الشعبي وعروة بن الزبير والنخعي وقتادة والحكم بن عيينة وحماد والثوري والحسن بن صالح بن حيي وعبيد الله بن الحسين والأوزاعي كذا ذكره ابن عبد البر . واستدل لهم بحديث الباب .

                                                                                                          [ ص: 243 ] قلت : الاستدلال بحديث الباب موقوف على أمرين :

                                                                                                          الأول : أن تكون الفاء في " فتوضأ " للسببية وهو ممنوع كما عرفت .

                                                                                                          والثاني : أن يكون لفظ فتوضأ بعد لفظ قاء محفوظا وهو محل تأمل .

                                                                                                          فإنه روى أبو داود هذا الحديث بلفظ : قاء فأفطر ، وبهذا اللفظ ذكره الترمذي في كتاب الصيام حيث قال وروي عن أبي الدرداء وثوبان وفضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ، قال وإنما معنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صائما فقاء فضعف فأفطر لذلك . هكذا روي في بعض الحديث مفسرا . انتهى . وأورده الشيخ ولي الدين محمد بن عبد الله في المشكاة بلفظ قاء فأفطر وقال رواه أبو داود والترمذي والدارمي . انتهى .

                                                                                                          وأورده الحافظ في التلخيص بهذا اللفظ حيث قال : حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ، رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وابن الجارود وابن حبان والدارقطني والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم من حديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ، قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق إلخ ، ورواه الطحاوي بهذا اللفظ في شرح الآثار ، فمن يروم الاستدلال بحديث الباب على أن القيء ناقض للوضوء لا بد له من أن يثبت أن لفظ توضأ بعد لفظ قاء محفوظ ، فما لم يثبت هذان الأمران لا يتم الاستدلال .

                                                                                                          واستدل لهم أيضا بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم أخرجه ابن ماجه ، قلت : هذا حديث ضعيف فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة ، ثم الصواب أنه مرسل .

                                                                                                          واستدل لهم أيضا بأحاديث أخرى ذكرها الزيلعي في نصب الراية والحافظ في الدراية وكلها ضعيفة لا يصلح واحد منها للاستدلال ، من شاء الوقوف عليها وعلى ما فيها من الكلام فليرجع إلى هذين الكتابين ، قال النووي في الخلاصة : ليس في نقض الوضوء وعدم نقضه بالدم والقيء والضحك في الصلاة حديث صحيح . انتهى . كذا في نصب الراية ص 23 .

                                                                                                          ( وقال بعض أهل العلم ليس في القيء والرعاف وضوء وهو قول مالك والشافعي ) فعند مالك لا يتوضأ من رعاف ولا قيء ولا قيح يسيل من الجسد ولا يجب الوضوء إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر وقيل ومن [ ص: 244 ] نوم وعليه جماعة أصحابه ، وكذلك الدم عنده يخرج من الدبر لا وضوء فيه لأنه يشترط الخروج المعتاد ، وقول الشافعي في الرعاف وسائر الدماء الخارجة كقوله إلا ما يخرج من المخرجين سواء كان دما أو حصاة أو دودا أو غير ذلك ، وممن كان لا يرى في الدماء الخارجة من غير المخرجين الوضوء طاوس ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن وأبو ثور كذا قال ابن عبد البر في الاستذكار ، وقال البخاري في صحيحه : وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ، وقال طاوس ومحمد بن علي وعطاء وأهل الحجاز ليس في الدم وضوء . انتهى . قال الحافظ في الفتح : قوله وأهل الحجاز هو من عطف العام على الخاص لأن الثلاثة المذكورين قيل حجازيون ، وقد رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد بن جبير ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيب ، وأخرجه إسماعيل القاضي من طريق أبي الزناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهو قول مالك والشافعي ، قال : وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع . انتهى كلام الحافظ . قلت : أثر عمر هذا رواه مالك في الموطأ وفيه فصلى عمر وجرحه يثعب دما . قال الزرقاني بمثلثة ثم عين مفتوحة ، قال ابن الأثير أي يجري . انتهى .

                                                                                                          واحتج لمالك والشافعي ومن تبعهما بما في صحيح البخاري تعليقا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته . انتهى .

                                                                                                          أجاب عنه الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات بأنه إنما ينتهض حجة إذا ثبت اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة ذلك الرجل ، وقال الخطابي : ولست أدري كيف يصح الاستدلال والدم إذا سال أصاب بدنه وربما أصاب ثيابه ومع إصابة شيء من ذلك لا تصح صلاة إلا أن يقال : إن الدم كان يجري من الجرح على سبيل الدفق حتى لم يصب شيئا من ظاهر بدنه وإن كان كذلك فهو أمر عجب كذا ذكره الشمني . انتهى كلام الشيخ .

                                                                                                          قلت : حديث جابر المذكور صحيح ، قال الحافظ في فتح الباري : أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . انتهى ، والظاهر هو اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة ذلك الرجل فإن صلاته تلك كانت في حالة الحراسة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر العلامة العيني حديث جابر هذا في شرح الهداية من رواية سنن أبي داود وصحيح ابن حبان . والدارقطني والبيهقي . قال وزاد : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لهما قال ولما يأمره بالوضوء ولا بإعادة الصلاة . انتهى ، فإن كان الأمر كما قال العيني فاطلاعه صلى الله عليه وسلم على صلاة ذلك الرجل ثابت ، وأما قول الخطابي : ولست أدري كيف يصح الاستدلال إلخ فقال الحافظ ابن حجر بعد ذكره : ويحتمل أن يكون الدم أصاب الثوب فقط فنزعه ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه ، ثم الحجة قائمة به على كون [ ص: 245 ] خروج الدم لا ينقض ولم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه . انتهى .

                                                                                                          وأجاب هؤلاء عما تمسك به الأولون بأن حديث أبي الدرداء المذكور في الباب بلفظ " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ليس بنص صريح في أن القيء ناقض للوضوء كما عرفت ، ثم هو مروي بهذا اللفظ وقد روي بلفظ قاء فأفطر ، قال الشوكاني في النيل : الحديث عند أحمد وأصحاب السنن الثلاث وابن الجارود وابن حبان والدارقطني والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم بلفظ " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ، قال معدان : فلقيت ثوبان في مسجد دمشق " الحديث ، وبأن حديث عائشة المذكور ضعيف لا يصلح للاحتجاج ؛ فإنه من رواية إسماعيل بن عياش ، عن ابن جريج وهو حجازي ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة .

                                                                                                          قوله : ( وحديث حسين أحسن شيء في هذا الباب ) قال ابن منده إسناده صحيح متصل ، وتركه الشيخان لاختلاف في سنده ، قال الترمذي جوده حسين ، وكذا قال أحمد ، وفيه اختلاف كثير ذكره الطبراني وغيره كذا في النيل .




                                                                                                          الخدمات العلمية