الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين للتناسب والاتصال بين هاتين الآيتين ( وما بعدهما إلى الآية 22 ) وما قبلهما وجه [ ص: 185 ] وجيه واضح وإن غفل عنه الرازي وأبو السعود وأمثالهما ممن يعنون بالغوص على التناسب بين الآيات ، وهاك بيانه : قال الله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( 3 : 69 ) وقال : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ( 2 : 125 ) وقص علينا تعالى في سورة البقرة خبر بناء إبراهيم وإسماعيل لهذا البيت ، وما كانا يدعوان به عند رفع قواعده من جعلهما مسلمين له ، ومن ذريتهما أمة مسلمة له ، وبعث رسول منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وقد استجاب الله تعالى دعاءهما كله فكان من ذريتهما أمة مسلمة موحدة له تعالى تقيم دينه في بيته وفي غيره كما أمر ، ثم طال عليهم الأمد فطرأت عليهم الوثنية ، وترك جماهيرهم ملة إبراهيم الحنيفية ، حتى بعث فيهم منهم محمدا رسول الله وخاتم النبيين ، تكملة لدعوة جده إبراهيم ، فقاوم المشركون دعوته ، وصدوه ومن آمن به عن المسجد الحرام ، وأخرجوهم من ديارهم بجواره ، ثم ما زالوا يقاتلونهم في دار هجرتهم إلى أن صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، ومكنهم من فتح مكة ، وأدال للتوحيد من الشرك ، وللحق من الباطل .

                          فلما زالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام ، وطهره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما كان فيه من الأصنام ، بقي أن يطهره من العبادة الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ، وأن يبين لهم الوجه في كون المسلمين أحق بهم ، فلما آذنهم بنبذ عهودهم ، وأمر عليا كرم الله وجهه أن يتلو أوائل سورة ( براءة ) على مسامع وفودهم في يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة ، كان من مقاصد هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام بالتبع لزوال ولايتهم العارضة عليه ، فكان علي وأعوانه ينادون في يوم النحر بمنى : لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . وإنما أمهلهم إلى موسم السنة التالية لفتح مكة لسببين فيما يظهر : ( أحدهما ) أنه كان فيهم أصحاب عهد مع المسلمين من قبل الفتح ، كان من شروطه ألا يمنع من المسجد الحرام أحد من الفريقين ، والوفاء بالعهد من أهم أحكام الإسلام فأمهلهم إلى انقضاء عهودهم بنبذ ما جاز نبذه ، وإتمام ما وجب إتمامه ، ولم يكن إعلامهم بذلك إلا في موسم السنة التاسعة كما أمر الله تعالى : ( وثانيهما ) أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم في موسمي العامين الثامن والتاسع بدون قتال في أرض الحرم ؛ لأنهم كانوا بمقتضى التقاليد يأتون للحج من كل فج وهم كثيرون ، ولا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ، ولا المعاهد وغير المعاهد إلا بعد وصولهم إلى البيت ، وشروعهم في الطواف فيه ، فكيف السبيل إلى منع المشرك منهم بعد ذلك بغير قتال فيه فضلا عن سائر الحرم - والقتال محرم فيه ؟ وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم فتح مكة : إنها أحلت له ساعة من [ ص: 186 ] نهار ولم تحل لأحد قبله ، ولن تحل لأحد بعده ؟ فعلم من هذا أن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام ، وإبطال ما كان المشركون يدعونه ويفخرون به من حق عمارته الحسية وإيئاسهم من الاشتراك فيها ، كان يتوقف على ما ذكر من نبذ عهودهم ، ومن العدل الواجب في الإسلام إعلامهم بذلك قبل تنفيذه بزمن طويل يكفي لعلم الجماهير منهم به ، وهذا المنع هو ما تضمنته هاتان الآيتان على أكمل وجه ، وفسره علي كرم الله وجهه بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجهة الخاصة ، فحسن أن يوضع هو وما يتلوه بعد آيات ذلك النبذ والأذان ، وما تلاه من التهديد بالقتال بعد عود حالته إلى ما كانت عليه قبل العهود . وهو المقصود بالذات بقسميه السلبي والإيجابي وسيأتي النهي عن تمكينهم من القرب من المسجد الحرام أيضا في الآية ( 28 ) قال تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله النفي في مثل هذا التعبير يسمى نفي الشأن ، كما سبق بيانه في نظائره مع بيان أنه أبلغ من نفي الفعل طبعا أو شرعا ؛ لأنه نفي له بالدليل ، والمساجد : جمع مسجد ، وهو في اللغة مكان السجود ، وقد صار اسما للبيوت التي يعبد فيها الله تعالى وحده كما قال تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( 72 : 18 ) قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ( مسجد الله ) بالإفراد وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وهم أكبر مفسري السلف ، وقرأ باقي السبعة وآخرون ( مساجد الله ) بالجمع . والمتبادر من الإفراد إرادة المسجد الحرام ؛ لأنه المفرد العلم الأكمل الأفضل من المساجد وكلها لله ، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل ، والمراد من المساجد جنسها الذي يصدق بأي فرد من أفرادها ، كما يقولون : فلان يخدم الملوك وإن لم يخدم إلا واحدا منهم ، وفلان يركب البراذين أو الحمير وإن لم يركب إلا واحدا منها ، ومنه والخيل والبغال والحمير لتركبوها ( 16 : 8 ) على أن بعضهم زعم أن المراد بالجمع المسجد الحرام أيضا وعللوه بقول الحسن : إنما قال : ( مساجد ) ؛ لأنه قبلة المساجد كلها ، وهو ضعيف وركيك ، ويقتضي أن النفي وما يتضمنه من المنع خاص به وهو باطل إجماعا . وتفسيره المفرد بالجمع لإفادته العموم بالإضافة أصح لفظا ومعنى لولا أنهما تكرار لا تظهر له فائدة : فالحق أن كلا من القراءتين مقصود ، وفائدة ذكر المفرد مع الجمع التنويه بمكانته ، وكونه محل النزاع ، وسبب القتال بين المؤمنين والمشركين .

                          وعمارة المسجد في اللغة لزومه ، والإقامة فيه للعبادة ، أو لخدمته بالترميم والتنظيف ونحوهما ، وعبادة الله فيه ، وزيارته للعبادة ، ومنها الحج والعمرة ، قال في اللسان : عمر الرجل ماله وبيته يعمره ( بالضم ) عمارة وعمورا وعمرانا لزمه . . . . يقال لساكن الدار : عامر والجمع عمار ( وهنا ذكر البيت المعمور وما روي في تفسيره وقال : والمعمور المخدوم ) ثم ذكر : [ ص: 187 ] عمر الرجل الله بمعنى عبده ، قال : والعمارة ( بالكسر ) ما يعمر به المكان ، والعمارة ( بالضم ) أجرة العمارة . ( قال ) والعمرة ( بالضم ) طاعة الله عز وجل ، والعمرة في الحج معروفة مأخوذة من الاعتمار وهو الزيارة والقصد . . . وهو في الشرع زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة . قال الزمخشري : ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر ، ولكن عمر الله إذا عبده ، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما ، وهو يعمر ربه يصلي ويصوم اهـ . ملخصا .

                          وقال الراغب : العمارة نقيض الخراب يقال : عمر أرضه يعمرها . قوله إنما يعمر مساجد الله ( 9 : 18 ) إما من العمارة التي هي حفظ البناء أو من العمرة التي هي الزيارة أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي أقمت به ؛ لأنه يقال : عمرت المكان وعمرت بالمكان انتهى . وظاهره أنه يقال عمر بمعنى اعتمر فليتحر .

                          فعلم من هذه النصوص أن عمارة المسجد تطلق على عبادة الله فيه مطلقا ، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة ، وهي خاصة بالمسجد الحرام ، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية ، وعلى بنيانه وترميمه . وكل ذلك مراد هنا ؛ لأن اللفظ يدل عليه والمقام يقتضيه ، والمختار عندنا استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير .

                          روي عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، وأغلظ علي له القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ، ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ : ألكم محاسن ؟ فقال : نعم ، إننا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله إلخ والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا ، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم .

                          ومعنى الجملة : ما كان ينبغي ، ولا يصح للمشركين ، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم ، أو الذي يشرعه أو يرضاه الله منهم أو يقرهم عليه أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة له ، والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا [ ص: 188 ] أو معتمرين ، ولا شيئا من سائر مساجده كذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر أي : ما كان لهم ذلك في حال كونهم كافرين شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا ؛ لأن هذا جمع بين الضدين ، فإن عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية بعبادته فيها وحده ، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحد له ، وذلك ضد الكفر به ، وأي كفر بالله أظهر وأشد من الشرك به ومساواته ببعض خلقه في العبادة ؟ وهو ما كانوا يفعلونه من عبادة الأصنام بالاستشفاع بها ، والسجود لما وضعوه في البيت منها عقب كل شوط من طوافهم فيه ، وأي اعتراف به أصرح من نص تلبيتها له تعالى وهي قولهم بأفواههم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وكانوا يكفرون بالبعث والجزاء أيضا ، ولما بعث فيهم محمد رسول الله وخاتم النبيين كفروا به وبما جاء به من البينات والهدى ، كفر سادتهم وكبراؤهم جحودا وعنادا وتبعهم دهماؤهم خضوعا لهم وتقليدا ، ومن النصوص الدالة على جحودهم آية : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 6 : 33 ) ومن الأدلة على عنادهم آية : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( 8 : 32 ) .

                          فقوله تعالى : شاهدين إلخ . قيد للنفي قبله مبين لعلته ، والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به لا يمكن المكابرة فيه . وقد قيل إنه لا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في بناء المساجد ؛ لأنه من العمارة الحسية الممنوعة ، وفيه نظر ؛ لأن الممنوع منها إنما هو الولاية عليها ، والاستقلال بالقيام بمصالحها ، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا ، وأما استخدام المسلمين للكافر في عمل لا ولاية فيه ، كنحت الحجارة ، والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، ولا فيما ذكر من نفي الشأن ، فإن نفي الشأن المذكور دليل على التشريع في هذه المسألة ، وكونه حقا مبنيا على أساس ثابت في فطرة البشر ، وليس تشريعا لها ، والدلالة فيه عقلية علمية كما علم من تفسيرنا له .

                          ( فإن قيل ) قد وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن بنى مسجدا للمسلمين ، ومنهم من أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك . ( قلت ) : إن هذا لا يعارض ما فسرنا به نفي الشأن ، ولا ما بني عليه من الحكم ، وللمسلمين أن يقبلوا مثل هذا المسجد وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر آخر ديني ولا سياسي ؛ لأنه حينئذ يكون كمسجد الضرار الذي يأتي ذكره في هذه السورة ، فلو عرض اليهود على المسلمين في هذا العصر أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان تداعى أو ضعف من بنائه أو بذلوا لهم مالا لذلك لما جاز لهم أن يقبلوا هذا ولا ذاك ، وإن لم يتول اليهود العمل [ ص: 189 ] لما علم من طمعهم في الاستيلاء على هذا المسجد ، والتوسل له بما يجعلونه ذريعة لادعاء حق ما لهم فيه ، على كفرهم بعيسى ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكتابيهما ، وقولهم على مريم بهتانا عظيما .

                          أولئك حبطت أعمالهم أي : أولئك المشركون الكافرون بالله ، وبما جاء به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حبطت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام ، وسقاية الحاج وغيرهما من أعمال البر كقرى الضيف ، وصلة الرحم ، أي : بطلت وفسدت حتى لم يبق لها أدنى تأثير في صلاح أنفسهم مع الشرك والكفر ومفاسدهما ، وأصله من الحبط وهو - بالتحريك - أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ ويفسد جوفها . قال تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ( 39 : 65 ) و ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( 6 : 88 ) و أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ( 18 : 105 ) .

                          وفي النار هم خالدون أي : وهم مقيمون في دار العذاب التي تسمى النار دون غيرها إقامة خلود وبقاء ، لكفرهم المحبط لأعمالهم الحسنة حتى لا أثر لها في تزكية أنفسهم ، وإحاطة خطيئاتهم بها وتدسيتها لهم ، فلم يبق فيها أدنى استعداد لجوار الله تعالى في دار الكرامة - وما ثمة إلا الجنة أو النار فريق في الجنة وفريق في السعير ( 42 : 7 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية