الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون هذه الآية خاتمة هذا السياق في الحث على جهاد المشركين ، لتطهير جزيرة العرب من الشرك وطغيانه وخرافاته ، وإصرار الراسخين فيه على عداوة الإسلام والمسلمين ، وقد كان الكلام في الآيات التي قبلها في بيان حال المشركين في مواصلة ما بدءوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم ، وقتال هؤلاء لهم إلى حد الفصل التام بين الفريقين على الوجه الذي قامت به [ ص: 182 ] الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق في هذا القتال ، التي لو عرضت على المنصفين من أهل كل ملة لحكموا للمؤمنين عليهم ، وقد بسطت في الآيات السابقة بالتفصيل المسهب الذي ليس وراءه غاية ، وإنني لا أذكر أنه يوجد في الكتاب العزيز سياق فيه من الإسهاب والتأكيد والتكرار مثل ما في هذا السياق ، ولم أر فيما اطلعت عليه من التفاسير من سبق إلى ما وفقني تعالى له من بيان نكتته ، والإفصاح بحكمته ، والتكرار الذي يقتضيه المقام أعظم أركان البلاغة ؛ لأنه أعظم أسباب إقناع العقل ، والتأثير في الوجدان . وأما الكلام في هذه الآية فهو في بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحصهم من ضعف الإيمان ، والهوادة في حقوق الإسلام .

                          ويقول الجمهور : إن ( أم ) في مثل هذه الجملة هي المنقطعة التي تفيد معنى الإضراب والاستفهام ، والمراد بالإضراب هنا تحويل سياق الكلام عن بيان ما يوجب على المؤمنين قتال الكافرين من بدئهم بالقتال لمحض عداوة الإيمان وأهله ، ومن نكثهم للأيمان والعهود بعد إبرامها وتوثيقها وغير ذلك مما تقدم - والانتقال منه إلى ما يتعلق بحال المؤمنين أنفسهم وما لهم من الفائدة العظيمة في الجهاد الحق للمشركين . وتقدم في تفسير آية أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ( 2 : 214 ) من سورة البقرة أن شيخنا رحمه الله تعالى قال : إن ( أم ) فيها لمحض الاستفهام ، مراعى فيها معادلته لاستفهام آخر يؤخذ من سياق الكلام ، وليس فيها من معنى الإضراب شيء . ثم فصل القول في المسألة في تفسير آية آل عمران : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( 3 : 142 ) ورأينا أبا جعفر بن جرير قد جرى في تفسيره على أن الاستفهام في هذه الآيات في مقابلة استفهام آخر . ونفي العلم الإلهي في هذه الآيات يراد به نفي المعلوم الذي هو متعلقه بالطريقة البرهانية كما تقدم تحقيقه في تفسير آية آل عمران . والوليجة ما يلج في الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدخيلة ، وهو يطلق على الواحد والكثير - وقد يجمع على ولائج - ويشمل السريرة الفاسدة والنية الخبيثة ، وبطانة السوء من المنافقين والمشركين وهو المراد هنا ؛ لأنه هو الذي يتخذ . والخطاب لمجموع المسلمين الذين كانوا لا يخلون من بقية من المنافقين ومرضى القلوب الذين يثبطون عن القتال . والمعنى على هذا : هل جاهدتم المشركين حق الجهاد وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدءوكم أول مرة ، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل ؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن في دينكم وصد الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهر الإسلام ؟ وهل نسيتم ما اعتذر به [ ص: 183 ] المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تبوك من الأعذار الملفقة الباطلة ، وما كان من خبث الذين خرجوا معكم إليها ، وتثبيطهم إياكم عن القتال وغير ذلك مما فضحتهم به هذه السورة ؟ أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير امتحان ولا افتتان ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم أي : والحال أنه لم يظهر فيكم إلى الآن ما يمتاز به أولئك الذين جاهدوا منكم في الله حق جهاده من المنافقين ومرضى القلوب ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة أي : ولم يتخذوا لأنفسهم دخيلة ، وبطانة من المشركين الذين يحادون الله تعالى بالشرك به ، ويحادون رسوله بالصد عن دعوته ، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله ، يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة ، ويقفونهم على سياسة الأمة كما فعل ويفعل المنافقون ومرضى القلوب فيكم . فهو بمعنى قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ( 3 : 118 ) عبر عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين الصادقين ، وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان بعدم علمه بهم ؛ لأن عدم علمه تعالى بالشيء برهان على عدم ثبوته أو وجوده ، ولا يوجد هؤلاء ممتازين ظاهرين إلا بما مضت به السنة في الاجتماع من الابتلاء بالشدائد كما قال في أول سورة العنكبوت : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ( 29 : 1 - 3 ) .

                          وقد ثبت في الصحيح أن حاطب بن أبي بلتعة وهو من أهل بدر قد تودد إلى مشركي مكة ، وكتب إليهم كتابا يخبرهم به بما عزم عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قتالهم بعد نقضهم لعهده الذي كان في الحديبية ، ليكافئوه على ذلك بعدم الاعتداء على ما كان له لديهم في مكة من أهل ومال ، فما القول في المنافقين ومن دون مثل حاطب من ضعفاء المؤمنين ، إن ما فشا بين المسلمين في ذلك العهد من كراهة قتال المشركين لم يكن كل سببه ما تقدم من كراهة بعض المؤمنين للقتال بنية صحيحة ، بل كان من أسبابه دسائس يلقيها المشركون إلى أصدقاء لهم أو أولي قربى من المنافقين وضعفاء الإيمان . حتى قال بعض المفسرين : إن هذه الآية خطاب لهم من دون المؤمنين الصادقين ، والصواب أن الخطاب لجماعة المسلمين كما تقدم ، ذكر به الغافل ، وأنذر به المنافق ، فبين لهم أن منهم من يتخذ وليه من أعدائهم ، وأنه لا بد من التمييز بين الخبيث والطيب منهم ، بما دل عليه النفي بـ " لما " الدال على توقع المنفي لقرب وقوعه ، وأكد هذا الإخبار والإنذار بقوله : والله خبير بما تعملون أي : عالم بخفايا ما تعملون الآن وبعد الآن محيط بدقائقه ، وقد مضت سنته بأن يكون التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحص ما في القلوب ، ويطهر السرائر ، ويزكي الأنفس بقدر استعداد [ ص: 184 ] معدنها ، وأنه هو الذي يبرز السرائر الخبيثة ، ويظهر سوء معدنها ، و " الواو " في الجملة حالية أي أحسبتم وظننتم أن تتركوا قبل أن يتم هذا التمحيص والتمييز بين الذين صدقوا في جهادهم والكاذبين من فاسدي السريرة ، ومتخذي الوليجة ، وهو إلى الآن لم يعلم هؤلاء المجاهدين منكم ؛ لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل ، وأن ما لا يعلمه الله هو الذي لا وجود له ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من أمركم ، وكيف ذلك والله خبير بما تعملون .

                          فهذه الآيات بمعنى آيات أول سورة العنكبوت وآيتي البقرة وآل عمران اللتين أشرنا إليهما وإلى ما تقدم من تفسيرهما ، فليرجع إليه من شاء الوقوف على ما فيهما من العلم والعبرة والموازنة بين مسلمي عصرنا ، ومسلمي العصر الأول . وقد ثبت بالاختبار أن للحروب - على ما يكون فيها من العدوان والشرور - فوائد عظيمة في ترقية الأمم ، ورفع شأنها بقدر استعدادها ، وناهيك بالحرب إذا التزم فيها ما قرره الإسلام من إحقاق الحق وإبطال الباطل ، ومراعاة قواعد العدل والفضيلة . كاحترام العهود ، وتحريم الخيانة ، وتقدير الضرورة فيها بقدرها ، ووضع كل من الشدة والرحمة في موضعها ، كما تقدم بيانه في تفسير آيات هذه السورة ، وآيات سورة الأنفال قبلها ، وكذا آيات القتال من سورتي البقرة وآل عمران ، وكذلك كان المسلمون الأولون في جميع حروبهم على تفاوت بين سلفهم وخلفهم ، وقد شهد لهم بذلك علماء التاريخ والاجتماع من الإفرنج المنصفين على قلتهم ، حتى قال حكيم كبير منهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية