الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم . هاتان الآيتان متمتان للكلام في أسرى بدر بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بترغيبهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة ، وبتهديدهم وإنذارهم عاقبة بقائهم على [ ص: 89 ] الكفر وخيانته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتضمن ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين ، قال تعالى : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أي : قل للذين في تصرف أيديكم من الأسرى - وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من الأسارى - الذين أخذتم منهم الفداء إن يعلم الله في قلوبكم خيرا إن كان الله تعالى يعلم أن في قلوبكم إيمانا كامنا بالفعل أو بالاستعداد الذي سيظهر في إبانه - أو كما يدعي بعضكم بلسانه ، والله أعلم بما في قلوبكم يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي : يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فيه من الغنائم وغيرها من نعم الدين التي وعدهم الله بها ، روى أبو الشيخ عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أن العباس وأصحابه قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي : إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أصيب منكم ويغفر لكم أي : ما كان من الشرك ، وما ترتب عليه من السيئات ، فكان عباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وأن لي ما في الدنيا من شيء ، فلقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف ، وأرجو أن يكون غفر لي الله ، وقد أخذ هذا من قوله : والله غفور رحيم أي : غفور لمن تاب من كفره ومن ذنبه بالأولى رحيم بالمؤمنين ، والمراد بهذه :الرحمة الخاصة التي تشمل سعادة الآخرة " وأما الرحمة العامة فقد وسعت كل شيء ، وهذا ترغيب لهم في الإسلام ودعوة إليه ، وعدم عدهم مسلمين بما قاله بعضهم ، ولذلك قال : وإن يريدوا خيانتك بما يظهر بعضهم من الميل إلى الإسلام ، أو دعوى إبطال الإيمان ، أو الرغبة عن قتال المسلمين من بعد - وهذا مما اعتيد من البشر في مثل تلك الحال - فلا تخف ما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال ، فقد خانوا الله من قبل باتخاذ الأنداد والشركاء له ، وبغير ذلك من الكفر بنعمه ثم برسوله ، وقال بعض المفسرين : إن خيانتهم الله تعالى هي ما كان من نقضهم لميثاقه الذي أخذه على البشر بما ركب فيهم من العقل ، وما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية على الوجه الذي تقدم بيانه في آية أخذه تعالى الميثاق على بني آدم من سورة الأعراف ( 7 : 172 ) فتراجع ( في ص325 - 339ج 9ط الهيئة ) فأمكن منهم الإمكان من الشيء والتمكين منه واحد ، أي فمكنك أنت وأصحابك منهم ، بنصره إياك عليهم ببدر على التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم [ ص: 90 ] وعدد أصحابك وعددهم ، وكذلك يمكنك ممن يخونك من بعد ، كما مكنك ممن خانه من قبل والله عليم حكيم أي : عليم بما سيكون من أمرهم ، حكيم في نصر المؤمنين وإظهارهم عليهم .

                          ويؤخذ من الآيتين ما يجب على المؤمنين من ترغيب الأسرى في الإيمان ، وإنذارهم عاقبة خيانتهم إذا ثبتوا على الكفر والطغيان ، وعادوا إلى البغي والعدوان ، وفيه بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ، ما داموا قوامين بأسباب النصر المادية والمعنوية ، العلمية والعملية التي تقدم بيانها في هذه السورة ، وقد ورد من التفسير المأثور في معنى الآيتين ما يحسن نشره لما فيه من إيضاح المعنى ، وما كان من سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسألة فداء الأسرى .

                          روى البخاري في مواضع من صحيحه عن أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ترك فداء عمه العباس ـ رضي الله عنه ـ وكان في أسرى المشركين يوم بدر فقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه ؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " والله لا تذرون منه درهما " وقد عنوا بقولهم : " ابن أختنا العباس " جدته أم عبد المطلب فهي أنصارية من بني النجار ، لا أم العباس نفسه فإنها ليست من الأنصار ، وإنما وصفوه بكونه ابن أختهم ، ولم يصفوه بكونه عمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لئلا يكون في هذا الوصف ، رائحة منة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يأذن ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم في محاباته ؛ لأنه عمه بل ساوى بينه وبين سائر الأسرى ، بل ورد أنه أخذ منه أكثر مما أخذ من غيره ، وأنه أمره بفداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث لغناه وفقرهما ، وقيل الأول فقط ، وقيل : وحليفه عتبة بن ربيعة ، وقد روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أمره بذلك قال : إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الله أعلم بما تقول ، إن كان ما تقول حقا فإن الله يجزيك ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا ؟ " .

                          قال الحافظ ابن حجر بعد إيراد ما ذكر : وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا ، وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس : كان فداء كل واحد أربعين أوقية فجعل على العباس مائة أوقية ، وعلى عقيل ثمانين ، فقال له [ ص: 91 ] العباس : أللقرابة صنعت هذا ؟ قال : فأنزل الله تعالى : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم إلخ . . فقال العباس : وددت لو كنت أخذ مني أضعافها لقوله تعالى : يؤتكم خيرا مما أخذ منكم اهـ . أي : قال ذلك بعد إسلامه وما أعطاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بعض الغنائم كما نص عليه في بعض الروايات .

                          وذكر الحافظ في الإصابة أن العباس حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدرا مع المشركين مكرها ، فأسر فافتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة ، فيقال : إنه أسلم وكتم قومه ذلك ، وصار يكتب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأخبار ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد الفتح وشهد يوم حنين اهـ .

                          وفي تتمة خبر عائشة أن العباس اعتذر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أمره بالفداء له ولابن أخيه ولحليفه عتبة بن ربيعة بأنه لا يجد ، قال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها : إن أصبت فإن هذا المال لبني " فقال : والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها . إلخ .

                          وروى الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلادة لها في فداء زوجها ، فلما رآها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رق لها رقة شديدة وقال : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها " هكذا في الدر المنثور ، وعزاه الحافظ في الإصابة إلى الواقدي بسند له عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة بأبسط مما هنا قليلا ، وفيه أنه كلم الناس فأطلقوه ورد عليها القلادة وأخذ على أبي العاص ( زوجها ) أن يخلي سبيلها ففعل اهـ . وقد أسلم العاص بعد ذلك ورواية الواقدي ضعيفة ، وتصحيح الحاكم ينظر فيه .

                          ثم ختم الله تعالى هذه السورة الجامعة لأهم قواعد السياسة في الحرب والسلم والأسرى والغنائم بما يناسبها من القواعد في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة ، وما يلزمهما من الأعمال ، واختلاف ذلك باختلاف الأحوال : كولاية الكافرين بعضهم لبعض في مقابلة أهل الإيمان ، ومن المحافظة على الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد معقودا غير منبوذ وغزله عند الكفار مبرما غير منكوث ، فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية