الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 72 ] ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى ؛ لأن أمورها يفصل فيها بعد القتال في الغالب ، كما وقع في غزوة بدر وكما يقع في كل زمان ، وفصله عما قبله ؛ لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما ما في قصة غزوة بدر وأهلها ، والأسرى جمع أسير كالقتلى والجرحى جمع قتيل وجريح . وقال الزجاج : إن هذا الجمع خاص بمن أصيب في بدنه أو عقله كمريض ومرضى ، وأحمق وحمقى ، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد بالإسار بالكسر أي السير وهو القد من الجلد ، وكان من يؤخذ من العسكر في الحرب يشد لئلا يهرب ، ثم صار لفظ الأسير يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشد ، ويجمع لغة على أسارى وقرئ به في الشواذ ، وقال بعضهم : إنه جمع أسرى أي جمع الجمع ، وعلى أسراء كضعيف وضعفاء وعليم وعلماء ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب " تكون " بالفوقية بناء على تأنيث لفظ الجمع أسرى ( والثخانة من الثخن بكسر ففتح ، والثخانة وهي الغلظ والكثافة ، وثوب ثخين ضد رقيق ، والعامة تجعل الثاء المثلثة من هذه المادة مثناة .

                          ومعنى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض ، أي حتى يعظم شأنه فيها ويغلظ ويكثف بأن تتم له القوة والغلب ، فلا يكون اتخاذه الأسرى سببا لضعفه أو قوة أعدائه ، وهو في معنى قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : حتى يظهر على الأرض . وقول البخاري : حتى يغلب في الأرض . وفسره أكثر المفسرين بالمبالغة في القتل ، وروي عن مجاهد وهو تفسير بالسبب لا بمدلول اللفظ ، وفي التفسير الكبير للرازي : قال الواحدي : الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوة المرض عليه ، وكذلك أثخنه الجراح ، والثخانة : [ ص: 73 ] الغلظة . فكل شيء غليظ فهو ثخين . فقوله : حتى يثخن في الأرض معناه : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر . ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا : المراد منه حتى يبالغ في قتل أعدائه . قالوا : وإنما حملنا اللفظ عليه ؛ لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل . قال الشاعر :


                          لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

                          ولأن كثرة القتل توجب الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجرأة ومن الإقدام على ما لا ينبغي فلهذا السبب أمر الله بذلك اهـ .

                          وأقول : إن من المجربات التي لا شك فيها أن الإثخان في قتل الأعداء في الحرب سبب من أسباب الإثخان في الأرض ، أي التمكن والقوة وعظمة السلطان فيها ، وقد يحصل هذا الإثخان بدون ذلك أيضا ، يحصل بإعداد كل ما يستطاع من القوى الحربية ، ومرابطة الفرسان ، والاستعداد التام للقتال الذي يرهب الأعداء كما تقدم في تفسير : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ( 8 : 60 ) وما هو ببعيد . وقد يجتمع السببان ، فيكمل بهما إثخان العزة والسلطان . كما أن الإسراف في القتل قد يكون سببا لجمع كلمة الأعداء واستبسالهم .

                          وأما قوله تعالى في سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تسمى سورة القتال أيضا فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ( 47 : 4 ) الآية ، فهو في إثخان القتلى الذي يطلب في معركة القتال بعد الإثخان في الأرض ، فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا ورجحانهم علينا ، إذا كان هذا القتل قبل أن نثخن في الأرض بالعزة والقوة التي ترهب أعداءنا ، حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا ، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا ، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق ؛ لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية ، وجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها ، لا ضراوة بسفك الدماء ، ولا تلذذا بالقهر والانتقام ، ولذلك خيرنا الله تعالى فيهم بين المن عليهم وإعتاقهم بفك وثاقهم وإطلاق حريتهم ، وإما بفداء أسرانا عند قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم بمال نأخذه منهم ، ولم يأذن لنا في هذه الحال بقتلهم ، فقد وضع الشدة في موضعها والرحمة في موضعها . وإذا كان بيننا وبين دولة عهد يتضمن اتفاقا على الأسرى وجب الوفاء به وبطل التخيير بينه وبين غيره .

                          وأما قوله تعالى بعد هذا التخيير الذي يختار الإمام منه في غير حال العهد الخاص معهم ما فيه المصلحة العامة حتى تضع الحرب أوزارها أي : أثقالها ، وقيل : آثامها . فهو غاية [ ص: 74 ] لما قبله . قالوا : أي إلى أن تنقضي الحرب ، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم ، أي بألا يعتدى على المسلمين ذلك الاعتداء الذي يكون به القتال فرض عين عليهم ، وقيل : حتى تزول الحرب من الأرض ويعم السلم ، وهي الغاية العليا التي يتمناها فضلاء البشر من جميع الأمم الراقية ، ولكن الله تعالى بين بعد هذا أن الحرب سنة اجتماعية اقتضتها الحكمة الإلهية في ابتلاء البشر بعضهم ببعض ، ليظهر استعداد كل فريق منهم فقال : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض أي : الأمر ذلك الذي ذكر لكم ، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه ولا عمل ، ولكن مضت سنته بأن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم ليبلو ويختبر بعضكم ببعض - وسنبين ذلك بالتفصيل في تفسير هذه الآية من سورتها إذا أحيانا الله تعالى .

                          وجملة القول في تفسير الآيتين أن اتخاذ الأسرى إنما يحسن ويكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ، أما في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وأما في الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية