الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 305 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة المؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] أي : فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفلاح المؤمنين مذكور ذكرا كثيرا في القرآن ; كقوله وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] وقوله الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 2 ] أصل الخشوع : السكون ، والطمأنينة ، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان :

                                                                                                                                                                                                                                      رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع



                                                                                                                                                                                                                                      وهو في الشرع : خشية من الله تكون في القلب ، فتظهر آثارها على الجوارح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجرا عظيما في قوله في الأحزاب والخاشعين والخاشعات إلى قوله أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ 2 \ 45 ] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله الذين هم في صلاتهم خاشعون على أن من خشوع المصلي : أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده ، قالوا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السماء في الصلاة ، فأنزل الله الذين هم في صلاتهم خاشعون فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر حيث يسجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع بصره إلى [ ص: 306 ] السماء فنزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 2 ] فطأطأ رأسه " اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده ، ولا يرفع بصره ، وخالف المالكية الجمهور ، فقالوا : إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده ، واستدلوا لذلك بقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام [ 2 \ 144 ] قالوا : فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء ، وذلك ينافي كمال القيام ، وظاهر قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام ; لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده ، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام ، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن معنى أفلح : نال الفلاح ، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : الفوز بالمطلوب الأكبر ، ومنه قول لبيد :

                                                                                                                                                                                                                                      فاعقلي إن كنت لما تعقلي     ولقد أفلح من كان عقل



                                                                                                                                                                                                                                      أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم ، ومنه قول لبيد أيضا في رجز له :

                                                                                                                                                                                                                                      لو أن حيا مدرك الفلاح     لناله ملاعب الرماح



                                                                                                                                                                                                                                      يعني : مدرك البقاء ، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير ، أو الأضبط بن قريع :

                                                                                                                                                                                                                                      لكل هم من الهموم سعه     والمسى والصبح لا فلاح معه .


                                                                                                                                                                                                                                      أي لا بقاء معه ، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة ، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين ، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما ، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة : حي على الفلاح .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية