الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين [ ص: 31 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة هذا بيان لبعض مضمون قوله تعالى في الآية التي قبل الأخيرة : والله شديد العقاب ومعناه : ولو رأيت أيها الرسول - أو الخطاب لكل من سمعه أو يتلوه - إذ يتوفى الذين كفروا من قتلى بدر وغيرهم ( ومعلوم أن " لو " الامتناعية ترد المضارع ماضيا ) ملائكة العذاب حالة كونهم يضربون وجوههم وأدبارهم أي : ظهورهم وأقفيتهم بجملتها - وهو ضرب من عالم الغيب بأيدي الملائكة ، فلا يقتضي أن يراه الناس الذين يحضرون وفاتهم ، كما أنهم لا يسمعون كلامهم عندما يقولون لهم : وذوقوا عذاب الحريق - لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما ، يرد الكافر عن كفره ، والظالم عن ظلمه ، إذا هو علم عاقبة أمره . والمراد بعذاب الحريق عذاب النار الذي يكون بعد البعث . وروي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر : كان المؤمنون يضربون ما أقبل من المشركين من وجوههم ، والملائكة تضرب أدبارهم من ورائهم . وقد علمت مما تقدم من التحقيق أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت مثبتة للمؤمنين ، فلا تغرنك الروايات ، ومنها حديث الحسن البصري عند ابن جرير قال : قال رجل : يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك . فقال : " ذلك ضرب الملائكة " ولعلك تعلم أن مراسيل الحسن البصري رحمه الله عند المحدثين كالريح أي لا يقبض منها على شيء .

                          ويؤيد القول الظاهر بأن هذا في عذاب الآخرة بقية قولهم لهم : ذلك بما قدمت أيديكم أي : ذلك العذاب الذي ذقتم وتذوقون بسبب ما كسبت أيديكم في الدنيا فقدمتموه إلى الآخرة من كفر وظلم ، وهو يشمل القول والعمل سواء كان من عمل الأيدي أو الأرجل أو الحواس أو تدبير العقل - كل ذلك ينسب إلى عمل الأيدي توسعا وتجوزا ، وأصله أن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها . وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : وبأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد فيكون ذلك العذاب ظلما منه على تقدير عدم وقوع سببه من كسب أيديكم ، ولكن سبب ذلك منكم ثابت قطعا ، كما أن وقوع الظلم منه لعبيده منتف قطعا ، فتعين أن تكونوا أنتم الظالمين لأنفسكم قطعا ، فلوموها فلا لوم لكم إلا عليها . وفي الحديث القدسي الذي يرويه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " إلخ . رواه مسلم من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ والحق أن الظلم حقيقة ، وأنه تعالى منزه عنه كتنزهه عن سائر النقائص ، وما ينافي كمال الربوبية والألوهية ، لا لاستحالة وقوعه منه عقلا ؛ لأن معناه التصرف في ملك الغير ، ولا ملك لغيره تعالى - كما قالت الأشعرية - وهو خطأ في تعريف الظلم ، وخطأ في أصل المسألة بيناه من قبل . [ ص: 32 ] هذا التعبير بعينه وذوقوا عذاب الحريق إلى للعبيد قد تقدم في سورة آل عمران ( 3 : 181 و182 ) فيراجع تفسيره في ( ص 217 و218 ج 4 ط الهيئة ) ومنه بيان نكتة نفي المبالغة في الظلم مع أن الظلم قليله وكثيره لا يقع منه تعالى ، ويراجع في بيان هذا أيضا تفسير إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( 4 : 40 ) في ( ص85 - 91 ج 5 ط الهيئة ) .

                          ونكتة هذا التكرار اللفظي بيان أن هذه الحجة الإلهية تقام في الآخرة على جميع الكفار المجرمين بهذا القول ، فليست خاصة بحال أناس أو قوم دون آخرين ، وما سبق في سورة آل عمران ورد في اليهود الذين عاندوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجحدوا نبوته ، كما آذوا النبيين قبله ، وكانوا يقتلونهم بغير حق ، على ما كان من بخلهم وقول بعضهم : إن الله فقير ونحن أغنياء ( 3 : 181 ) ويتضح هذا المعنى بما بعده وهو .

                          كدأب آل فرعون والذين من قبلهم أي : دأب هؤلاء وشأنهم الثابت لهم - والدأب الاستمرار على الشيء - كدأب آل فرعون والذين من قبلهم من الفراعنة ، وسائر الملوك العتاة ، وأقوام الرسل في التاريخ ، وقد فسره بقوله تعالى : كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة ، ونصر رسله والمؤمنين بهم عليهم ، على ما بين الفريقين من تفاوت في العدد والعدد وسائر الأسباب ، فكما كان دأبهم واحدا كانت سنة الله فيهم واحدة ، فنصره تعالى لرسوله ، والمؤمنين في بدر هو مقتضى تلك السنة إن الله قوي شديد العقاب لمن يستحق عقابه ، ولكن لكل شيء عنده أجلا . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه - من حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ .

                          وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة آل عمران إلا أنه قال فيها : كذبوا بآياتنا ( 3 : 11 ) والنكتة في هذا التكرار بيان أنه سنة الله فاطرد . والفرق بين الموضعين أن آية آل عمران في الكفار المغرورين بكثرة أموالهم وأولادهم ، المحتقرين للرسل وأتباعهم من ضعفاء المؤمنين بفقرهم وضعف عصبيتهم النسبية ، وأما آية الأنفال فهي في الكفار المغرورين بقوتهم وبأسهم ، المحتقرين للمؤمنين بفقد ذلك وهي سابقة في النزول .

                          ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، أي : ذلك الذي ذكر من أخذه تعالى لقريش بكفرها لنعم الله عليها ، التي أتمها ببعثه خاتم رسله منهم ، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم ، مؤيد بأمر آخر يتم به عدله تعالى وحكمته ، وهو أنه لم يكن من شأنه ، ولا مقتضى رسالته أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة وأن الله سميع عليم سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم وأعمالهم محيط بما يكون من كفرهم للنعمة فيعاقبهم عليه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية