الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 3 ] الجزء العاشر

                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور تقدم وجه التناسب بين الآيات من أول السورة إلى هنا ، وفي هذه الآية عود إلى وصف غزوة بدر ، وما فيها من الحكم والعبر والأحكام ، وقد بدئ هذا السياق بحكم شرعي يتعلق بالقتال وهو تخميس الغنائم ، كما بدئت السورة بذكر الأنفال ( الغنائم ) التي اختلفوا فيها [ ص: 4 ] وتساءلوا عنها في تلك الغزوة ، والمناسبة بين الآية هنا وما قبلها مباشرة ظاهر ، فقد جاء في الآيتين اللتين قبلها الأمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم ، حتى لا تكون فتنة ، ووعد الله المؤمنين بالنصر عليهم ، وذلك يستتبع أخذ الغنائم منهم فناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم ، وإننا نذكر أقوال العلماء في الغنيمة ، وما في معناها أو على مقربة منها ، كالفيء والنفل والسلب والصفي قبل تفسير الآية لطوله : حتى لا يختلط بمدلول الألفاظ فنقول : الغنم بالضم والمغنم والغنيمة في اللغة : ما يصيبه الإنسان ويناله ويظفر به من غير مشقة ، كذا في القاموس ، وهو قيد يشير إليه ذوق اللغة أو يشتم منه ما يقاربه ، ولكنه غير دقيق ، فمن المعلوم بالبداهة أنه لا يسمى كل كسب أو ربح أو ظفر بمطلوب غنيمة ، كما أن العرب أنفسهم قد سموا ما يؤخذ من الأعداء في الحرب غنيمة ، وهو لا يخلو من مشقة ، فالمتبادر من الاستعمال أن الغنيمة والغنم : ما يناله الإنسان ، ويظفر به من غير مقابل مادي يبذله في سبيله ( كالمال في التجارة مثلا ) ، ولذلك قالوا : إن الغرم ضد الغنم ، وهو ما يحمله الإنسان من خسر وضرر بغير جناية منه ، ولا خيانة يكون عقابا عليهما . فإن جاءت الغنيمة بغير عمل ولا سعي مطلقا سميت الغنيمة الباردة . وفي كليات أبي البقاء : الغنم بالضم : الغنيمة ، وغنمت الشيء : أصبته غنيمة ومغنما ، والجمع غنائم ومغانم " والغنم بالغرم " أي مقابل به . وغرمت الدية والدين : أديته . ويتعدى بالتضعيف يقال : غرمته ، وبالألف ( أغرمته ) : جعلته لي غارما . والغنيمة أعم من النفل ، والفيء أعم من الغنيمة ؛ لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك بعد ما تضع الحرب أوزارها ، وتصير الدار دار الإسلام . وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس . وذهب قوم إلى أن الغنيمة ما أصاب المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء ما كان عن صلح بغير قتال . وقيل : النفل إذا اعتبر كونه مظفورا به يقال له غنيمة ، وإذا اعتبر كونه منحة من الله ابتداء من غير وجوب يقال له : نفل وقيل : الغنيمة ما حصل مستغنما بتعب كان أو بغير تعب ، وباستحقاق كان أو بغير استحقاق ، وقبل الظفر أو بعده . والنفل ما يحصل للإنسان قبل ( قسمة ) الغنيمة من جملة الغنيمة . وقال بعضهم : الغنيمة والجزية ومال الصلح والخراج كله فيء ؛ لأن ذلك كله مما أفاء الله على المؤمنين . وعند الفقهاء : كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيء ا هـ .

                          والتحقيق أن الغنيمة في الشرع : ما أخذه المسلمون من المنقولات في حرب الكفار عنوة ، وهذه هي التي تخمس فخمسها لله وللرسول كما سيأتي تفصيله ، والباقي للغانمين يقسم بينهم . وأما الفيء فهو عند الجمهور ما أخذ من مال الكفار المحاربين بغير قهر الحرب لقوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ( 59 : 6 ) الآية وهو لمصالح جمهور المسلمين ، وقيل كالغنيمة .

                          [ ص: 5 ] ويدخل في هذا الباب ( النفل ) بالمعنى الخاص ، وهو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة بعد القسمة زيادة على سهمه من الغنائم لمصلحة استحقه بها قيل : يكون من خمس الخمس ( والسلب ) وهو ما يسلب من المقتول في المعركة من سلاح وثياب ، وخصه الشافعي بأداة الحرب يعطى للقاتل قيل : مطلقا . وقيل : إذا جعل الإمام له ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه لما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ و ( الصفي ) وكان للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصطفي لنفسه شيئا من الغنيمة يكون سهما له خاصا به سواء كان من السبي أو الخيل أو الأسلحة أو غيرها من النفائس قال بعضهم : كان ذلك خاصا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال آخرون : بل ذلك للإمام من بعده من حيث إنه إمام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية