الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 512 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين نبدأ بتفسير الألفاظ الغريبة في الآيات فنقول : ( الزحف ) مصدر زحف إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دب على مقعده كالصبي ، أو على ركبتيه ، قال امرؤ القيس :


                          فأقبلت زحفا على الركبتين فثوب لبست وثوب أجر

                          والمشي بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف الدبى ( صغار الجراد قبل طيرانها ) قال في الأساس : وزحف البعير وأزحف : أعيا حتى جر فرسنه ، وزحف الشيء جره جرا ضعيفا ، وزحف العسكر إلى العدو : مشوا إليهم في ثقل لكثرتهم ، ولقوهم زحفا ، وتزاحف القوم وزاحفناهم ، وأزحف لنا بنو فلان صاروا لقتالنا . انتهى ملخصا . والزحف الجيش ، ويجمع على زحوف لخروجه عن معنى المصدرية ، و ( الأدبار ) جمع دبر ( بضمتين ) وهو الخلف ، ومقابله القبل بوزنه وهو القدام ; ولذلك يكنى بهما عن السوأتين ، وتولية الدبر والأدبار عبارة عن الهزيمة ; لأن المنهزم يجعل خصمه متوليا ومتوجها إلى دبره ومؤخره ، وذلك أعون له على قتله إذا أدركه و ( المتحرف ) للقتال أو غيره هو المنحرف عن جانب إلى آخر ، وأصله في الحرف وهو الطرف ، وصيغة التفعيل تعطيه معنى التكلف أو معاناة الفعل المرة بعد المرة أو بالتدريج ، وفي معناه ( المتحيز ) [ ص: 513 ] وهو المنتقل من حيز إلى آخر . والحيز المكان ، ومادته الواو ، فالحوز المكان يبنى حوله حائط ، قال في الأساس : انحاز عن القوم : اعتزلهم ، وانحاز إليهم وتحيز انضم . وذكر جملة الآية و ( الفئة ) الطائفة من الناس و ( المأوى ) الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان وينضم و ( موهن ) الشيء مضعفه ، اسم فاعل من أوهنه أي أضعفه ، ومثله وهنه وهنا ووهنه توهينا . و ( الكيد ) التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء غايته المكيدية به كما تقدم في تفسير الآية 183 من سورة الأعراف . و " الاستفتاح " طلب الفتح والفصل في الأمر ، كالنصر في الحرب .

                          والمعنى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا أي: إذا لقيتموهم حال كونهم زاحفين لقتالكم ، كما كانت الحال في غزوة بدر ، فإن الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فثقفوهم في بدر فلا تولوهم الأدبار أي: فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم ، وإن كانوا أكثر منكم عددا وعددا ، وإذا كان التزاحف من الفريقين أو كان الزحف من المؤمنين فتحريم الفرار والهزيمة أولى ، ولفظ " لقيتموهم زحفا " يصلح للأحوال الثلاثة ، ورجح الأول هنا بقرينة الحال التي نزلت فيها الآية ، وكون النهي عن التولي والفرار إنما يليق بالمزحوف عليه; لأنه مظنة له ، ويليه ما إذا كان التزاحف من الفريقين ، وأما الزاحف المهاجم فليس مظنة للتولي والانهزام فيبدأ بالنهي عنه ، وهو منه أقبح ومن يولهم يومئذ دبره عبر بلفظ تولية الدبر في وعيد كل فرد ، كما عبر به في نهي الجماعة لتأكيد حرمة جريرة الفرار من الزحف وكون الفرد فيها كالجماعة ، وآثر هذا اللفظ مفردا وجمعا على لفظ الظهور والظهر أو القفا والأقفية زيادة في تشنيعها ; لأنه لفظ يكنى به عن السوأة ، أي وكل من يولهم يوم إذ تلقونهم دبره إلا متحرفا لقتال أي: إلا متحرفا لمكان من أمكنة القتال رآه أحوج إلى القتال فيه - أو متحرفا لضرب من ضروبه رآه أبلغ في النكاية بالعدو ، كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه فينفرد عن أشياعه فيكر عليه فيقتله أو متحيزا إلى فئة أي: متنقلا إلى فئة من المؤمنين في حيز غير الذي كان فيه لينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم ، فصاروا أحوج إليه ممن كان في حيزهم فقد باء بغضب من الله أي: فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله عليه ومأواه جهنم وبئس المصير ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير جهنم . كأن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك فعوقب على ذلك بجعل عاقبته التي يصير إليها دار الهلاك والعذاب الدائم أي جوزي بضد غرضه من معصية الفرار ، وقد تكرر في التنزيل التعبير عن جهنم والنار بالمأوى ، وهو إما من قبيل ما هنا ، وإما للتهكم المحض ، فإنك إذا راجعت استعمال هذا الحرف في غير هذا المقام من التنزيل تجده لا يذكر إلا في مقام النجاة من خوف أو شدة ، كقوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف ( 18 : 10 ) وقوله : أو آوي إلى ركن شديد ( 11 : 80 ) [ ص: 514 ] وقوله : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ( 11 : 43 ) وقوله : والذين آووا ونصروا ( 8 : 72 ) إلخ .

                          والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي ، وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث أصحها عن أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين ، وعد بعضهم الآية منسوخة بقوله تعالى من هذه السورة : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ( 8 : 66 ) الآية وستأتي . وهذا ظاهر على قول من يسمي التخصيص نسخا كالمتقدمين . قال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة ، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة ، وروى هو وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر .

                          وقد روي عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر - قيل : إنه بناء على أن قوله تعالى : يومئذ يراد به يوم بدر ، ولكن هذا خلاف قاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويؤيده نزول الآية بعد انتهاء الغزوة ، فإنه ليس فيها ذكر " يوم بدر " وإنما المراد بتنوين يومئذ ما فهم من أول الآية ، أي يوم لقائهم زحفا كما تقدم ، فاليوم فيه بمعنى الوقت . وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام ، لو انهزم فيها المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة ، وتأييد المسلمين فيها بالملائكة يثبتونهم ، ووعده تعالى بنصرهم ، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم - فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص ، وقرينة الحال في النهي ، اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها ، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار خاصا بها ، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وسلم معهم : يوم أحد ، وفيه يقول الله تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ( 3 : 155 ) ويوم حنين وفيه يقول الله تعالى : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [ ص: 515 ] ( 9 : 25 ، 26 ) إلخ . وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر ، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، بل قد يكون دون ذلك ، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة ، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا .

                          وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال : " كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة ، وكنت فيمن حاص ، - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ، ثم قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا . فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : من ، الفرارون ؟ . فقلنا : نحن الفرارون . قال : بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة المسلمين . قال : فأتيناه حتى قبلنا يده . ولفظ أبي داود فقلنا : ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ، ولا يرانا أحد ، فدخلنا فقلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا ، فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا : نحن الفرارون إلخ " . تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ، ولا لللغة حكم ، وقد قال الترمذي فيه : حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد أقول : وهو مختلف فيه ، ضعفه الكثيرون . وقال ابن حبان : كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه ، فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح ، وجملة القول أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا ، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية