الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
654 حديث ثاني عشر لسمي

مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر ، وقال : تقووا لعدوكم ، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو بكر : قال الذي حدثني لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب الماء على رأسه من العطش ، أو من الحر ، ثم قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن طائفة من الناس قد صاموا حين صمت ، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكديد دعا بقدح فشرب فأفطر الناس .

التالي السابق


هذا حديث مسند صحيح ، ولا فرق بين أن يسمي التابع الصاحب الذي حدثه أو لا يسميه في وجوب العمل بحديثه ، لأن الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات ، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث .

[ ص: 48 ] وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد الخدري ، وقد ذكرناها في باب حميد الطويل ، ومنها ما ذكرنا في باب ابن شهاب .

وفي هذا الحديث من الفقه الصيام في السفر في رمضان ; لأن سفره هذا عام الفتح كان في رمضان لا خلاف في ذلك ، وفي صومه - صلى الله عليه وسلم - رمضان في سفره إبطال قول من قال لا يصوم أحد رمضان في السفر وجعل الفطر عزمة من الله لقوله - عز وجل - : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، يقول : إن المسافر لا يصوم في سفره ; لأن الله أراد منه صيام أيام أخر ، وهذا قول يروى عن عبيدة وسويد بن غفلة ، وكان أبو مجاز يقول : لا يسافر أحد في رمضان ، فإن سافر ولا بد فليصم .

وفي هذا الحديث وشبهه مما تقدم ذكرنا له في باب ابن شهاب عن عبيد الله ما يبطل هذا التأويل ، وعلى إجازة الصوم في السفر في رمضان وغيره جماعة فقهاء الأمصار .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في رمضان حين فتح مكة فصام حتى أتى عسفان ثم دعا بماء أو أتي بماء فشرب ، فكان ابن عباس يقول : من شاء صام ومن شاء أفطر .

[ ص: 49 ] ، وفي هذا الحديث وشبهه بطلان قول من قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر . وهو قول شاذ هجره الفقهاء كلهم ، يروى عن عبد الرحمن بن عوف والسنة ترده ، وقد ذكرنا كثيرا من معاني هذا الحديث في باب حميد وباب ابن شهاب عن عبيد الله من هذا الكتاب ، واتفق الفقهاء في المسافر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر ; لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية ، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض في سفره ، وليست النية في السفر كالنية في الإقامة ; لأن المسافر إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين ; لأن الإقامة لا تفتقر إلى علم ، والمقيم إذا نوى أن يسافر لم يكن مسافرا حتى يأخذ في السفر ويعمل عمل المسافر ويبرز عن الحضر ، فيجوز له حينئذ تقصير الصلاة وأحكام المسافر ، ولا خلاف بينهم في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر في الحضر حتى يخرج .

واختلف أصحاب مالك في هذا إن أفطر قبل أن يخرج ، فذكر ابن سحنون عن عبد الملك بن الماجشون أنه قال : إن سافر فلا شيء عليه من الكفارة ، وإن لم يسافر فعليه الكفارة ، قال : وقال أشهب : لا شيء عليه من الكفارة ، سافر أو لم يسافر . قال : وقال سحنون : عليه الكفارة سافر أو لم يسافر ، وهو بمنزلة المرأة تقول غدا تأتيني حيضتي فتفطر لذلك ، ثم رجع إلى قول عبد الملك وقال : ليس مثل المرأة ; لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء ، والمرأة لا تحدث الحيضة .

وقال ابن حبيب : إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في سبب الحركة ، فلا شيء عليه ، وحكي ذلك عن أصبغ وعن ابن الماجشون ، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة ، وحسبه أن ينجو إن سافر .

[ ص: 50 ] وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم ; لأنه متأول في فطره .

واختلف الفقهاء في الذي يصبح في الحضر صائما في رمضان ، ثم يسافر في صبيحة يومه ذلك وينهض في سفره ، هل له أن يفطر ذلك اليوم أم لا ؟ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن لا يفطر ذلك اليوم بحال ، وهو قول الزهري ويحيى بن سعيد والأوزاعي ، وبه قال أبو ثور .

واختلفوا إن فعل ، فكلهم قال يقضي ولا يكفر ، وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر ، وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، وليس قولهما هذا بشيء ; لأن الله قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة ، وإنما قولهم لا يفطر استحبابا لتمام ما عقده ، فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء ، وأما الكفارة فلا وجه لها ، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله .

وروي عن ابن عمر في هذه المسألة أنه يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا ، وهو قول الشعبي ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق ، قال أحمد : يفطر إذا برز عن البيوت . وقال إسحاق : يفطر حين يضع رجله في الرحل . وهو قول داود .

وقال الحسن البصري : يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج .

قال أبو عمر : قول الحسن شاذ ، ولا ينبغي لأحد أن يفطر وهو حاضر ، لا في نظر ولا في أثر . وقد روي عن الحسن خلاف ذلك .

ذكر عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول : لا يفطر ذلك اليوم إلا أن يشتد عليه العطش ، فإن خاف على نفسه أفطر . وقال إبراهيم : لا يفطر ذلك اليوم .

[ ص: 51 ] واختلفوا في الذي يختار الصوم في السفر فيصوم ثم يفطر نهارا من غير عذر ، فكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة ، وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال : إن أفطر بجماع كفر ; لأنه لا يقوى بذلك على سفره ، ولا عذر له . وعلى ذلك مذاهب سائر الفقهاء بالحجاز والعراق أنه لا كفارة عليه ، وروى البويطي عن الشافعي قال : إن صح حديث الكديد لم أر بأسا أن يفطر المسافر بعد دخوله في الصوم في سفره ، وروى المديني عنه كقول مالك أنه لا يرى الكفارة على من فعل ذلك .

قال أبو عمر : الحجة في سقوط الكفارة واضحة من جهة النظر ; لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه ، وهو مسافر قد دخل في عموم إباحة الفطر ، ومن جهة الأثر أيضا : حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، حدثنا عبد الله بن يوسف التميمي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن عطية بن قيس ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد الخدري قال : آذننا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بالرحيل لليلتين خلتا من رمضان فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفطر وأصبح الناس شرجين : منهم الصائم ، ومنهم المفطر ، حتى إذا بلغنا الظهران آذننا بلقاء العدو وأمرنا بالفطر ، فأفطرنا أجمعين .

[ ص: 52 ] حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن حاتم ، وأخبرنا سويد ، أخبرنا عبد الله ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان فصام حتى أتى قديدا ، فأتي بقدح من لبن فشرب فأفطر هو وأصحابه .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعب قال : أخبرنا محمد بن قدامة عن جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ، فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فشرب نهارا يراه الناس ، ثم أفطر حتى أتى مكة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان إلى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر ، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من ماء ، قال : فوضعه على راحلته عند نظر الناس ، فقال المفطرون للصوام : أفطروا .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثني ابن الهادي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصاح الناس ، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام ، فدعا بقدح من بعد العصر فشرب والناس ينظرون ، فأفطر بعض الناس وصام بعض ، فبلغه أن ناسا صاموا ، فقال : أولئك العصاة .

[ ص: 53 ] فهذه الآثار كلها تبين لك أن للصائم أن يفطر في سفره بعد دخوله في الصوم مختارا له في رمضان ، وفيها دليل على أن الفطر أولى إن شاء الله ، وقد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الأفضل من ذلك في باب حميد الطويل .

ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في شهر رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال الزهري : فكان الفطر آخر الأمرين .

قال : وأخبرنا معمر عن أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، قال : وما رأيته صام في السفر قط إلا يوما واحدا ، فإني رأيته أفطر حين أمسى ، فقلت له : أكنت صائما ؟ قال : نعم ، كنت أرى أني سأدخل مكة اليوم ، فكرهت أن يكون الناس صياما وأنا مفطر وذلك في رمضان .

واختلفوا في المسافر يكون مفطرا في سفره ويدخل الحضر في بقية من يومه ذلك ، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول ابن علية وداود في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطروا في السفر ، أنهما يأكلان ولا يمسكان . قال مالك والشافعي : ولو قدم مسافر في هذه الحال ، فوجد امرأته قد طهرت جاز له وطؤها . قال الشافعي : أحب لهما أن يستترا بالأكل والجماع خوف التهمة .

وروى الثوري عن أبي عبيد ، عن جابر بن زيد أنه قدم من سفر في شهر رمضان ، فوجد المرأة قد اغتسلت من حيضتها فجامعها ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره .

[ ص: 54 ] قال سفيان : هو كصنيع جابر بن زيد . ولم يذكر سفيان عن نفسه خلافا لهما ، وقال ابن علية : القول ما قال ابن مسعود ، من أكل أول النهار فليأكل آخره . وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن في المرأة تطهر في بعض النهار والمسافر يقدم وقد أفطر في سفره : أنهما يمسكان بقية يومهما وعليهما القضاء . واحتج لهم الطحاوي بأن قال : لم يختلفوا أن من غم عليه هلال رمضان فأكل ، ثم علم أنه يمسك عما يمسك عنه الصائم ، قال : فكذلك الحائض والمسافر . وفرق ابن شبرمة بين الحائض والمسافر فقال في الحائض : تأكل ولا تصوم إذا طهرت بقية يومها ، والمسافر إذا قدم ولم يأكل شيئا يصوم يومه ويقضي .

قال أبو عمر : قد روى ابن جريج عن عطاء في الذي يصبح مفطرا في أول يوم من رمضان يظنه من شعبان فيأكل ، ثم يأتيه الخبر الثبت أنه رمضان ، أنه يأكل ويشرب بقية يومه إن شاء ، ولا نعلم أحدا قاله غير عطاء ، والله أعلم . وقد مضى القول في كثير من معاني هذا الباب في باب ابن شهاب عن عبيد الله من هذا الكتاب ، والحمد لله رب التوفيق .




الخدمات العلمية