الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( التعارض والإشكالات في أحاديث المهدي )

                          وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر ; والجمع بين الروايات فيه أعسر ، والمنكرون لها أكثر ، والشبهة فيها أظهر ; ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما . وقد كانت أكبر مثارات الفساد والفتن في الشعوب الإسلامية ; إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان ، ومن أدعياء الولاية وأولياء الشيطان ، لدعوى المهدوية في الشرق والغرب ، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب ، وبالبدع والإفساد في الأرض حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية ، ومرق بعضهم من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .

                          وقد كان من حق تصديق الجماهير من المتأخرين بخروج مهدي يجدد الإسلام وينشر العدل في جميع الأنام أن يحملهم على الاستعداد لظهوره بتأليف عصبة قوية تنهض بزعامته ، وتساعده على إقامة أركان إمامته ، ولكنهم لم يفعلوا ، بل تركوا ما يجب لحماية البيضة وحفظ سلطان الملة بجمع كلمة الأمة ، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة فاتكلوا وتواكلوا ، وتنازعوا وتخاذلوا ، ولم يعظهم ما نزع من ملكهم ، وما سلب من مجدهم ، اتكالا على قرب المهدي ، كأنه هو المعيد المبدئ ، فهو الذي سيرد إليهم [ ص: 417 ] ملكهم ، ويجدد لهم مجدهم ، ويعيد لهم عدل شرعهم ، وينتقم لهم من أعدائهم ، ولكنه يفعل ذلك بالكرامات ، وما يؤيد به من خوارق العادات لا بالبواريد أو البندقيات الصارخات ولا بالمدافع الصاخات ، ولا بالدبابات المدمرات ، ولا بأساطيل البحار السابحات والغواصات ولا أساطيل المناطيد والطيارات ، ولا بالغازات الخانقات . وقد كانت الحرب بين خاتم النبيين والمشركين سجالا ، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا ، فهل يكون المهدي أهدى منه أعمالا وأحسن حالا ومآلا ؟ كلا .

                          وقد جاءهم النذير ، ابن خلدون الشهير ، فصاح فيهم إن لله تعالى سننا في الأمم والدول والعمران ، مطردة في كل زمان ومكان ، كما ثبت في مصحف القرآن ، وصحف الأكوان ، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية ، وأن الأعاجم قد سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية ، فإن صحت أخبار هذا المهدي فلن يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية ، ولو سمعوا وعقلوا ، لسعوا وعملوا ، ولكان استعدادهم لظهور المهدي بالاهتداء بسنن الله تعالى رحمة لهم ، تجاه ما كان في أخباره من الفتن والنقم فيهم ، وربما أغناهم عن بعض ما يرجون من زعامته إن لم يغنهم عنه كله .

                          كانت اليهود اغترت مثلنا بظواهر ما في كتب أنبيائهم من الأنباء بظهور مسيح فيهم يعيد لهم ما فقدوا من ملك داود وسليمان ، فاتكلوا على ما فهم أحبارهم منها بمحض التقليد الأصم الذي لا يسمع ، الأعمى الذي لا يبصر ، ومضت القرون في إثر القرون وهم لا يزدادون إلا تفرقا وضعفا ، فلما عرفت أجيالهم الأخيرة سنن الله تعالى في العمران طفقوا يستعدون لاستعادة ذلك الملك والسلطان ، بالسعي إلى إنشاء وطن يهودي خاص بهم يقيمون فيه قواعد العمران ، بإرشاد العلوم والفنون العصرية ، التي يتعلمونها بما يحيون من لغتهم العبرانية ، وقد أنشؤوا لذلك مصرفا ماليا خاصا ، وما زالوا يجمعون لأجله الإعانات بالألوف وألوف الألوف من الدنانير ، حتى إنهم استمالوا لمساعدتهم في هذا العهد ، أقوى دول الأرض .

                          هذا - والمسلمون لا يزالون يتكلون على ظهور المهدي ، ويزعم دهماؤهم أنه سينقض لهم سنن الله تعالى أو يبدلها تبديلا ، وهم يتلون قوله تعالى : فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ( 35 : 43 ) فإذا كان من أشراط الساعة آيات ، وكان زمنها زمن خوارق العادات ، فهل يضرهم أن تأتيهم على هدى من ربهم وإقامة لشرعهم وعزة وسلطان في أرضهم ؟ .

                          على أنهم أنشؤوا في العصور الأولى عصبيات لأجل المهدي ، ولكنها جاهلية بل أنشؤوا المهدي المتنظر ( عج ) نفسه لأجل تلك العصبيات المجوسية ، التي كانت تسعى [ ص: 418 ] لإزالة ملك الأمة العربية ، وإفساد دينهم الذي أعطاهم الملك والقوة ، ولأجل ذلك كثر الاختلاف في اسم المهدي ونسبه وصفاته وأعماله ، وكان لكعب الأحبار جولة واسعة في تلفيق تلك الأخبار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية