الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء


              378 - ابن برة

              ومنهم المفيق من الغرة ، والمحذر من المضرة والمعرة ، المشوق إلى الحبور والمسرة ، الربيع بن عبد الرحمن المعروف بابن برة .

              حدثنا أبو بكر بن أحمد المؤذن ، ثنا أحمد بن محمد بن عمر ، ثنا عبد الله بن محمد بن سفيان ، حدثني محمد بن الحسن ، ثنا محمد بن سنان ، قال : سمعت الربيع بن برة ، يقول : ابن آدم إنما أنت جيفة منتنة ، طيب نسيمك ما ركب فيك من روح الحياة ، فلو قد نزع منك روحك ألقيت جثة ملقاة وجيفة منتنة وجسدا خاويا ؛ قد جيف بعد طيب ريحه ، واستوحش منه بعد الأنس بقربه ، فأي الخليقة ابن آدم منك أجهل ، وأي الخليقة منك أعجب ، إذ كنت تعلم أن هذا مصيرك وأن التراب مقيلك ، ثم أنت بعد هذا لطول جهلك تقر بالدنيا [ ص: 297 ] عينا ، أما سمعته يقول : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) أما والله ما حداك على الصبر والشكر إلا لعظيم ثوابهما عنده لأوليائه ، أما سمعته يقول جل ثناؤه : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) أوما سمعته يقول عز شأنه : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) فها هما منزلتان عظيمتا الثواب عند الله قد بذلهما لك ، يا ابن آدم فمن أعظم في الدنيا منك غفلة ؟! أو من أطول في القيامة حسرة ؟! إن كنت ترغب عما رغب لك فيه مولاك ، وإنك تقرأ في الليل والنهار في الصباح والمساء : ( نعم المولى ونعم النصير ) .

              حدثنا محمد بن أحمد المؤذن ، ثنا أحمد بن محمد بن عمر ، ثنا عبد الله بن محمد ، حدثني محمد بن الحسين ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، ثنا عباد بن الوليد القرشي ، قال : قال الربيع بن برة : عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق تراه عيونهم ، وشهد عليه معاقد قلوبهم ؛ إيمانا وتصديقا بما جاء به المرسلون ، ثم هاهم في غفلة عنه سكارى يلعبون ، ثم يقول : وايم الله ما تلك الغفلة إلا رحمة من الله لهم ، ونعمة من الله عليهم ، ولولا ذلك لألفي المؤمنون طائشة عقولهم ، طائرة أفئدتهم ، محلقة قلوبهم ، لا ينتفعون مع ذكر الموت بعيش أبدا حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك أكياس مجتهدون ، قد تعجلوا إلى مليكهم بالاشتياق إليه بما يرضيه عنهم قبل قدومهم عليه ، فكأني والله أنظر إلى القوم قد قدموا على ما قدموا من القربة إلى الله تعالى مسرورين ، والملائكة من حولهم يقدمونهم على الله مستبشرين ، يقولون : سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون .

              حدثنا محمد بن أحمد ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا عبد الله بن محمد ، حدثني محمد بن الحسين ، ثنا داود بن المحبر ، عن أبيه ، قال : مر بنا الربيع بن برة ونحن نسوي نعشا لميت فقال : من هذا الغريب بين أظهركم ؟ قلنا : ليس بغريب بل هو قريب حبيب ، قال : فبكى ، وقال : ومن أغرب من الميت بين الأحياء ؟ ! قال : فبكى القوم جميعا .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، حدثني محمد بن الحسين ، ثنا محمد بن سلام الجمحي ، قال : كان الربيع بن برة يقول : نصب [ ص: 298 ] المتقون الوعيد من الله أمامهم فنظرت إليه قلوبهم بتصديق وتحقيق ، فهم والله في الدنيا منغصون ، ووقفوا ثواب الأعمال الصالحة خلف ذلك فمتى سمت أبصار القلوب إلى ثواب الأعمال تشوقت القلوب وارتاحت إلى حلول ذلك ، فهم والله إلى الآخرة متطلعون بين وعيد هائل ووعد حق صادق ، فلا ينفكون من خوف وعيد إلا رجعوا إلى تشوق موعود ، فهم كذلك وعلى ذلك حتى يأتي أمر الله ، وهم أيضا مذابيل في الموت جعلت لهم الراحة ، ثم يبكي .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، حدثني محمد بن الحسين ، ثنا محمد بن سلام ، قال : سمعت الربيع بن عبد الرحمن ، يقول في كلامه : قطعتنا غفلة الآمال عن مبادرة الآجال ، فنحن في الدنيا حيارى لا ننتبه من رقدة إلا أعقبتنا في أثرها غفلة ، فيا إخوتاه ! نشدتكم بالله هل تعلمون مؤمنا بالله أغر ولنقمه أقل حذرا من قوم هجمت بهم الغير على مصارع النادمين ، فطاشت عقولهم وضلت حلومهم عندما رأوا من العبر والأمثال ، ثم رجعوا من ذلك إلى غير عقله ولا نقله ، فبالله يا إخوتاه هل رأيتم عاقلا رضي من حاله لنفسه بمثل هذه حالا ؟ والله عباد الله لتبلغن من طاعة الله تعالى رضاه ، أو لتنكرن ما تعرفون من حسن بلائه وتواتر نعمائه ، إن تحسن أيها المرء يحسن إليك ، وإن تسئ فعلى نفسك بالعتب ، فارجع فقد بين وحذر وأنذر فما للناس على الله حجة بعد الرسل : ( وكان الله عزيزا حكيما ) .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، ثنا محمد بن الحسين ، حدثني حكيم بن جعفر ، عن عبد الله بن أبي نوح ، قال : قال رجل لي - في بعض السواحل - وأنا قرأته في بعض أجزاء الربيع : كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب ؟ قلت : ما أحصي ذلك كثرة ، قال : فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك ؟ قلت : لا والله ولكنه أحسن إلي وأعانني ، قال : فهل سألته شيئا قط فما أعطاك ؟ قلت : وهل منعني شيئا سألته ؟ ما سألته شيئا قط إلا أعطاني ، ولا استعنت به إلا أعانني قال : أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك [ ص: 299 ] بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك ؟ قلت : ما كنت أقدر له على مكافأة ولا جزاء ، قال : فربك تعالى أحق وأحرى أن تدأب نفسك في أداء شكر نعمه عليك ، وهو قديما وحديثا يحسن إليك والله لشكره أيسر من مكافأة عباده ، إنه تبارك وتعالى رضي بالحمد من العباد شكرا .

              حدثنا محمد بن أحمد بن عمر ، ثنا أبي ، ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد ، ثنا محمد بن الحسين ، حدثني حكيم بن جعفر ، قال : سمعت أبا عبد الله البراثي ، يقول : سمعت رجلا من العباد يبكي ويقول في بكائه : بكت قلوبنا إلى الذنوب ارتياحا إلى مواقعتها ، ثم بكت عيوننا حزنا على الذي أتينا منها ، فليت شعري أيها المصيب برحمته من يشاء أحد البكائين مستولى علينا غدا في عرصة القيامة عندك ؟ لئن كنت لم تقبل التوبة يا كريم لقد حانت لنا إليك الأوبة يا رحيم ، ولئن أعرضت بوجهك الكريم عنا فبحق أعرضت عن المعرضين عنك ، ولئن تطولت بمنك ومننت بطولك علينا فلقديما ما كان ذلك منك على المذنبين ، قال : وسمعته يقول : أوثقتنا عقد الآثام فنحن في الدنيا حيارى قد ضلت عقولنا عن الله عز وجل .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، حدثني محمد بن الحسين ، ثنا راشد أبو سعيد ، حدثني ‌ عاصم الخلقاني ، قال : قال الربيع بن عبد الرحمن : إن لله عبادا أخمصوا له البطون عن مطاعم الحرام ، وغضوا له الجفون عن مناظر الآثام وأهملوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام ؛ رجاء أن ينير ذلك لهم قلوبهم إذا تضمنتهم الأرض بين أطباقها ، فهم في الدنيا مكتئبون وإلى الآخرة متطلعون نفذت أبصار قلوبهم بالغيب إلى الملكوت فرأت فيه ما رجت من عظم ثواب الله ، فازدادوا والله بذلك جدا واجتهادا عند معاينة أبصار قلوبهم ما انطوت عليه آمالهم ، فهم الذين لا راحة لهم في الدنيا ، وهم الذين تقر أعينهم غدا بطلعة ملك الموت عليهم ، قال : ثم بكى حتى بل لحيته بالدموع .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا علي بن سعيد ، ثنا علي بن مسلم ، ثنا عبد الصمد [ ص: 300 ] بن عبد الوارث ، ثنا الربيع ، قال : سمعت الحسن ، تلا : ( ياأيتها النفس المطمئنة ) وقال الحسن : النفس المؤمنة اطمأنت إلى الله واطمأن إليها وأحبت لقاء الله وأحب الله لقاءها ، ورضيت عن الله ورضي الله عنها ، فأمر بقبض روحها فغفر لها وأدخلها الجنة وجعلها من عباده الصالحين .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : قرأت على مسبح بن حاتم العكلي قال :ثنا عبد الجبار ، عن المغيرة بن شبل ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : كان في زمن - عمر فتى يتنسك ويلزم المسجد فعشقته جارية فجاءته فكلمته سرا ، فقال : يا نفسي تكلمينها فتلقي الله زانية ؟ فصرخ صرخة غشي عليه ، فجاء عم له فحمله إلى منزله ، فلما أفاق قال له : يا عم الق - عمر فاقرأ مني عليه السلام وقل له : ما جزاء من خاف مقام ربه ؟ ثم صرخ صرخة أخرى فمات ، فذهب عمه إلى - عمر ، فقال له : عليك السلام ، جزاؤه جنتان ، جزاؤه جنتان .

              حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد ، ثنا أحمد بن محمد بن عمر ، ثنا عبد الله بن محمد ، حدثني محمد بن الحسين ، ثنا محمد بن سنان الباهلي ، قال : سمعت الربيع بن برة ، يقول : إنما يحب البقاء من كان عمره له غنما وزيادة في عمله ، فأما من غبن عمره واستتر له هواه فلا خير له في طول الحياة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية