الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                كتاب الأقضية

                                                                                                                الأقضية جمع قضاء . نحو فضاء وأفضية وهواء وأهوية . والقضاء مشترك في اللغة ، قضى بمعنى أراد ومنه قضاء الله وقدره ، وقضى بمعنى حكم ، ومنه قضاء القاضي . والفرق : أن هذا إسناد من باب الكلام ، والأول من باب الإرادة ، وقضى بمعنى فعل ، ومنه : قضيت الصلاة ، وقضى عليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع ، يريد : زريدتين عملهما داود ، وقضى بمعنى قطع ، ومنه : قضيت الدين أي قطعت مطالبة الغريم

                                                                                                                قال صاحب التنبيهات : لها سبع معان ترجع إلى انقطاع الشيء وتمامه ، ومنه قوله تعالى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ) أي فصل ، وقضى القاضي : فصل الخصومة ، وقضى الدين ; وإحكام العمل ، ومنه قضيت هذه الدار ، أحكمت عملها ، ومنه قوله تعالى : ( فلما قضى موسى الأجل ) أي أحكمه .

                                                                                                                ثم يتمهد الفقه في هذا الكتاب ببيان شرف القضاء وخطره ، وبيان شروطه والمفيد لولايته ولولاية غيره ، والأسباب الموجبة لعزله ، وأنواع آدابه ، ومستندات أقضيته ، ومن يجوز أن يحكم له وعليه ، واستخلاف نوابه ، ونقض ما يتعين نقضه ، وتمييز ما ليس بقضاء من الفتاوى عما هو من حقيقته وجنسه ، وفي كيفية إنهائه لحاكم يحكم بغير الذي حكم به ، فهذا أحد عشر بابا .

                                                                                                                [ ص: 6 ] الباب الأول

                                                                                                                في

                                                                                                                التحذير من ولاية القضاء على عظيم شرفه

                                                                                                                وفي النوادر : قال مالك : أول من استقضى معاوية ، ولم يكن لرسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ولا لأبي بكر ولا لعثمان قاض ، فالولاة يقضون . وأنكر قول أهل العراق : إن عمر استقضى شريكا ، وقال يستقضى بالعراق دون الشام ، واليمن دون غيره ، ( كذا ) وليس كما قالوا .

                                                                                                                وفي الجواهر : الإمامة والقضاء فرض على الكفاية ، لما فيه من مصالح العباد ومنع التظالم والعناد ، وفصل الخصومات ورد الظلمات ، وإقامة الحدود وردع الظالم ونصر المظلوم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والحكم بالعدل أفضل من أعمال البر وأعلى درجات الأجر ، لأنه نص رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وفي الصحيحين : ( المقسطون على منابر من نور يوم القيامة ، يغبطهم النبيئون والشهداء ) ولكن خطره عظيم ؛ حقنا لاستيلاء الضعف وغلبة الهوى علينا . واتباع الهوى من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، لقوله تعالى : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) تقول العرب أقسط بالألف إذا عدل ، وقسط بغير ألف إذا جار ، وعنه _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إن أعتى الناس على الله ، وأبغض الناس على الله ، وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من أمر أمة محمد شيئا ثم لم يعدل فيهم ) فالقضاء محنة عظيمة ، فمن [ ص: 7 ] دخل فيه فقد ابتلي بعظيم ; لأنه عرض نفسه لهذه الأنواع ، والخلاص أحسن ، ولذلك قال _ صلى الله عليه وسلم _ في الصحيح : ( من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ) قال العلماء : إن جار فقد أهلك نفسه هلاكا عظيما ، فهو ذبح مثقل ، وهو كناية عن خطئهم الشديد ، وإن عدل فكذلك ، فإنه لا يصل على الخلاص إلا بشدائد عظيمة جدا من مراقبة الهوى ومخالفته وسياسات الناس مع الاحتراز منهم خصوصا ولاة الأمور ، مع إقامة الحق عليهم ، ومخالفة أغراضهم في أتباعهم وأنفسهم ، والثبوت عند انتشار الأهوال العظيمة ، والتشانيع الهائلة ، وإبهام حصول المضار الشنيعة في النفس والعرض والمال ، ونفور النفس من ألم العزل ، وشماتة الأعداء ، وتألم الأولياء ، إلى غير ذلك من تتميمات الشهود والنواب والقرناء ، وقلة من يستعان به من الأمناء ذوي الكفايات والكفالات ، فربما ( منى جعل الذي من خائن كائد ) ، والتباس النصائح بالمكائد والحيل ، لتحصيل الأغراض الفاسدة ، والشيطان من وراء ذلك يغري ، وحب الرياسة يمد ويعمي ، وهو باب يتعذر عذره ولا ينحسم مدده ، فلنسأل الله العفو والعافية ، وقد قيل لابن عباس : أي الرجلين أحب إليك : رجل كثرت حسناته وسيئاته ، ورجل قلت حسناته وسيئاته ؟ فقال : لا أعدل بالسلامة شيئا . وهو معنى قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) جاء في تفسيره : أن الله قال لهذه المذكورات : هل تحملن التكليف ؟ فإن أطعتن فلكن المثوبات العليات ، وإن عصيتن فلكن العقوبات المرديات ، فقلن : لا نعدل بالسلامة شيئا ، وقبل ذلك الإنسان ، فاختار حملها طمعا في الثواب والسلامة من [ ص: 8 ] العقاب ، فغلب عليه الهلاك ، وقل فيه الرشاد ، وكذلك في الصحيح : يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة : ( ابعث بعث النار ، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فيخلص من كل ألف واحد ) فلذلك قال الله تعالى : ( إنه كان ظلوما جهولا ( أي ظلوما لنفسه ، جهولا أي بالعواقب ، فلذلك لا ينبغي أن يقدم عليه إلا من وثق بنفسه ، وتعين له ، أو أجبره الإمام العدل وهو أهل ، وله أن يمتنع ويهرب [ فلا يجب بمجب عليه القبول ، وبهذا قال الأئمة . وتعينه بأن لا يكون في تلك الناحية من يصلح للقضاء سواه ، فيحرم الامتناع لتعين الفرض عليه ، ولا يأخذه بطلب ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ في مسلم ( لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ) وإن اجتمعت فيه شرائط التولية لئلا يوكل لنفسه فيعجز ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ في الترمذي : ( من طلب القضاء وكل إلى نفسه ، ومن أكره عليه أنزل الله ملكا ليسدده ) وقال الترمذي هو حسن ، وفي الباب من الوعيد قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( وفي آية أخرى : ( فأولئك هم الظالمون ) وفي أخرى : ( فأولئك هم الفاسقون ) وعن عمر _ رضي الله عنه _ : وددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي .

                                                                                                                وقال أبو قلابة : مثل القاضي العالم كالسابح في البحر ، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق ، وكتب سليمان إلى أبي الدرداء : بلغني أنك جعلت طبيبا ، فإن كنت تبرئ [ ص: 9 ] فنعما لك ، وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار ، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما فقال : ارجعا ، أعيدا على قضيتكما ، متطبب والله متطبب والله . قال صاحب المقدمات : الهروب عن القضاء واجب ، وقال ( ش ) : مستحب ، وطلب عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ أن يولى رجلا القضاء فأبى عليه فجعل يديه على الرضا فأبى حتى قال له : أنشدك بالله يا أمير المؤمنين ، أفي ذلك تعلم خيرا لي ؟ فقال فأعفني ، فقال : قد فعلت . قال مالك : قال لي علي بن الحسين : ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهته في وجهه ، إلا قاضيين منهما .

                                                                                                                وطلب القضاء حسرة يوم القيامة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ستحرصون على الإمارة ، وستكون حسرة وندامة يوم القيامة ) وفي مسلم ( لا تسأل الإمارة ، فإنك إن تؤتها عن غير مسألة تعن عليها ، وإن تؤتها عن مسألة تؤكل إليها ) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( إنا لا نستعمل على عملنا من أراده ) قال صاحب المقدمات : فيجب أن لا يولى القضاء من أراده وطلبه وإن كان أهلا ; مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به ، وقد نظر عمر _ رضي الله عنه _ إلى شاب وفد عليه فأعجبه ، فإذا هو يسأل القضاء ، فقال عمر _ رضي الله عنه _ : كدت أن تغرني من نفسك ، إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه .

                                                                                                                وفي الترمذي : قال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من كان قاضيا فقضى بالعدل فبالحري أن ينقلب منه كفافا ) [ ص: 10 ] وقال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار ، أما الذي في الجنة : فرجل عرف الحق فقضى به ، وأما الذي في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى في الناس على جهل فهو في النار ) وقال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران ) قال ابن أبي زيد : هذا إذا كان من أهل الاجتهاد ، أما المتكلف الذي ليس من أهل الاجتهاد ، فهو الذي قال فيه _ صلى الله عليه وسلم _ في الصحيح : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) . فبدأ بالإمام العادل ، ومما ورد في التحذير : قوله _ صلى الله عليه وسلم _ في الصحيحين : ( يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ) قال بعض العلماء : قوله : أحب لك ما أحب لنفسي ، ظاهر في أنه يحب لنفسه عدم الحكم ، مع أن الله تعالى [ ص: 11 ] أمره ، بالحكم ، وحاشاه أن يكره ما أمره الله به ، بل معناه : لو كنت ضعيفا لأحببت عدم الحكم لعجزي عنه حينئذ ، فالذي كان لأجل صفة أبي ذر في ضعفه لا الحكم في نفسه ، فما زال _ صلى الله عليه وسلم _ حاكما ، وأرسل عليا قاضيا ومعاذا وغيرهما إلى الأمصار ، وهو منصب الأنبياء أجمعين . قال الله تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون ) وقال _ صلى الله عليه وسلم _ في الصحيحين : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) .

                                                                                                                تنبيه : قال صاحب القبس : الأحاديث والآثار كثيرة تدل على الأمر بالزهد في القضاء ، والفرض لا يؤمر بالزهد فيه ، بل هو واجب على الكل ابتداء ، وإنما يسقط بفعل البعض ، وأجاب بأن شرف القضاء معلوم قطعا ، وهذه الأحاديث ليست من هذا ، وإنما هي تحذر وتنبه على الاحتراس من غوائل الطريق ، وقال أصحاب ( ش ) : الغني تكره له الولاية ، والفقير الذي ينال بالولاية كفاية من بيت المال لا يكره ; لأنه اكتساب بسبب مباح بل طاعة ، فهو أولى من الوراقة ، قالوا : ومن طلب القضاء رغبة في الولاية والنظر ، لا لنشر العلم والعدل : فثلاثة أقوال : يكره له الطلب والإجابة ، ويستحبان ، ويكره له الطلب وتستحب له الإجابة ; لما تقدم من الأحاديث المرغبة ، وموافقة الملائكة لما روي عنه _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إذا جلس القاضي في مجلسه هبط [ ص: 12 ] عليه ملكان يسددانه ويرشدانه ويوفقانه ، فإن جار عرجا وتركاه ) قلت : والقول بالاستحباب مطلقا بعيد ، لما ورد من التحذير وطلب السلامة وسيرة السلف ، فقد فر بعضهم من القضاء فعاتبه بعض أصحابه ، فقال له : أو ما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء ، والقضاة مع الملوك ، وتصدق لأن العلماء ورثة الأنبياء ، وعلى هديهم وإرشادهم ، والتعليم والإرشاد هو مقصود الرسالة الأعظم ، وأما تصرفهم بالقضاء والإمامة فتابع ، ولذلك إذا أردت تعرفهم بين القضاء والفتيا فحمله على الفتيا أولى ، لأنه الغالب ، كقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من أحيى أرضا ميتة فهي له ) حمله ( ح ) على التصرف بالإمامة فلا يحيي أحد إلا بإذن الإمام ، ومالك و ( ش ) على الفتيا ، فيجوز مطلقا ، والقضاة شاركوا في غالب أحوالهم وهو القهر والإلزام ; فيحشر كل واحد منهم مع أهل صفته . ويؤكده ما روي عنه _ صلى الله عليه وسلم _ : ( يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أنه لم يكن قاضيا بين اثنين ) وهو متجه ، فإن العدل في الغالب لا يسلم عن تقصير في الاجتهاد إما لطلب الراحة ، وإما لهوى دخل عليه من حيث لا يشعر ، والعوارض كثيرة ، فلذلك يشق عليه الحساب .

                                                                                                                وفي النوادر : عن مكحول : لو خيرت بين القضاء وبيت المال لاخترت القضاء ، ولو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ، وقال عمر _ رضي الله عنه _ لو علمت بمكان رجل هو أقوى على هذا الأمر مني لكان أن أقدم فتضرب عنقي [ ص: 13 ] أحب إلي من أن أليه . وقال يحيى بن سعيد : وليت قضاء الكوفة ، وأنا لدي أنه ليس على الأرض شيء من العلم إلا وقد سمعته ، فأول مجلس جلسته للقضاء ، اختصم إلي رجلان في شيء ما سمعت فيه شيئا . وأما ما روي عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( يؤتى بالقاضي يوم القيامة حتى يوقف على شفير جهنم وملك آخذ بقفاه ، فإن أمر أن يقذفه في النار قذفه فيها ، فيهوي أربعين خريفا ) ثم قال ابن مسعود : لأن أقضي يوما أحب إلي من عبادة سبعين عاما . وعن الحسن أنه قال : لا ( . . . ) حاكم عدل يوما واحدا أفضل من أجر رجل يصلي في بيته سبعين سنة ، لأنه يدخل في ذلك اليوم على كل بيت من المسلمين خير ، وقولهما هذا في مقادير الثواب التي لا يعلم إلا بتوقيف يدل على تلقيهما ذلك عن نص صحيح ، ويحمل قول ابن مسعود على أنه حدثه بنفسه ، فلا كلام معه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية