الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 361 ] سنة أربعين ومائتين من الهجرة النبوية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث موسى بن إبراهيم الرافقي وكان قد قتل رجلا من أشرافهم فقتلوا جماعة من أصحابه ، وأخرجوه من بين أظهرهم ، فبعث إليهم المتوكل أميرا عليهم ، وقال للسفير معه : إن قبلوا وإلا فأعلمني ، فقبلوه ، فعمل فيهم الأعاجيب ، وأهانهم غاية الإهانة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن قضاء القضاة ، وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار ، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد [ ص: 362 ] ابنه بعشرين يوما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذه ترجمة أحمد بن أبي دؤاد القاضي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو أحمد بن أبي دؤاد واسمه الفرج ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : دعمي . والصحيح أن اسمه كنيته - ابن جرير القاضي ، أبو عبد الله الإيادي المعتزلي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان في نسبه : هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن عبد هند بن عبد لخم بن مالك بن قنص بن منعة بن برجان بن دوس بن الدئل بن أمية [ ص: 363 ] بن حذاقة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ، ثم للواثق ، وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب ، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية ، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن ، قال الصولي : لم يكن بعد البرامكة أكرم منه ، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الألسن . قالوا : وكان مولده في سنة ستين ومائة ، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان وأصله من بلاد قنسرين وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم أخذ ولده هذا معه إلى العراق ، فاشتغل بالعلم ، وصحب هياج بن العلاء السلمي ، أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال ، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ، ويأخذ عنه العلم ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب " الوفيات " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد امتدحه بعض الشعراء ، فقال :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 364 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رسول الله والخلفاء منا ومنا أحمد بن أبي دؤاد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فرد عليه بعض الشعراء فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقل للفاخرين على نزار     وهم في الأرض سادات العباد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رسول الله والخلفاء منا     ونبرأ من دعي بني إياد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما منا إياد إذ أقرت     بدعوة أحمد بن أبي دؤاد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال : لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد . وعفا عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : حدثني الأزهري ، ثنا عمر بن أحمد الواعظ ، حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك ، حدثني جرير بن أحمد أبو مالك ، قال : كان أبي - يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء ، وخاطب ربه ، وأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما أنت بالسبب الضعيف وإنما     نجح الأمور بقوة الأسباب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واليوم حاجتنا إليك وإنما     يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على أحمد بن أبي دؤاد يوما فقال له : [ ص: 365 ] أحسبك عاتبا . فقال : إنما يعتب على واحد ، وأنت الناس جميعا . فقال له : أنى لك هذه ؟ فقال : من قول أبي نواس :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وليس لله بمستنكر     أن يجمع العالم في واحد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وامتدحه أبو تمام يوما ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد أنست مساوئ كل دهر     محاسن أحمد بن أبي دؤاد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما سافرت في الآفاق إلا     ومن جدواك راحلتي وزادي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يقيم الظن عندك والأماني     وإن قلقت ركابي في البلاد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال له : هذا المعنى تفردت به ، أو أخذته من غيرك ؟ فقال : هو لي غير أني ألممت بقول أبي نواس :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة     لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن يحيى الصولي : ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أأحمد إن الحاسدين كثير     وما لك إن عد الكرام نظير [ ص: 366 ]
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حللت محلا فاضلا متقدما     من المجد والفخر القديم فخور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكل غني أو فقير فإنه     إليك وإن نال السماء فقير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إليك تناهى المجد من كل وجهة     يصير فما يعدوك حيث تصير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبدر إياد أنت لا ينكرونه     كذاك إياد للأنام بدور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تجنبت أن تدعى الأمير تواضعا     وأنت لمن يدعى الأمير أمير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما من ندى إلا إليك محله     ولا رفعة إلا إليك تسير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قد أخطأ الشاعر في هذا خطأ كبيرا ، وأفحش في المبالغة كثيرا . وقال أحمد بن أبي دؤاد يوما لبعضهم : لم لا تسألني ؟ فقال له : لأني لو سألتك أعطيتك ثمن ما تعطيني . فقال له : صدقت . وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأعرابي : سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير ، فقال : [ ص: 367 ] يا غلام ، أعطه عيرا وبغلا وبرذونا وفرسا وجارية . ثم قال له : لو أعلم مركوبا غير هذا لأعطيتك . ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة من الناس أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات ، وعظيم منزلته عند الخلفاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر عن محمد المهتدي ابن الواثق أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم فلم يرد عليه الواثق ، بل قال : لا سلم الله عليك . فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك معلمك ; قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ النساء : 86 ] فلا حييتني بأحسن منها ، ولا رددتها . فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم . فقال : ناظره . فقال ابن أبي دؤاد : ما تقول يا شيخ في القرآن ، أمخلوق هو ؟ فقال الشيخ : لم تنصفني ; المسألة لي . فقال : قل . فقال : هذا الذي تقوله ، علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي أو ما علموه ؟ فقال : لم يعلموه . قال : فأنت علمت ما لم يعلموا ؟ فخجل وسكت . ثم قال : أقلني ، بل علموه . قال : فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت ، أما وسعك ما وسعهم ؟ فسكت ابن أبي دؤاد ، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار . قال المهتدي : فدخل أبي المنزل واستلقى على قفاه ، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ، [ ص: 368 ] ويقول : أما وسعك ما وسعهم ؟ ثم أمر بإطلاق الشيخ وإعطائه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده ، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا . رواها الخطيب البغدادي في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا أعرفه ، وساقها مطولة وفيها نكارة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نكست الدين يا ابن أبي دؤاد     فأصبح من أطاعك في ارتداد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      زعمت كلام ربك كان خلقا     أما لك عند ربك من معاد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كلام الله أنزله بعلم     وأنزله على خير العباد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن أمسى ببابك مستضيفا     كمن حل الفلاة بغير زاد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد     بقولك إنني رجل إيادي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الخطيب : أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال : أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري ، عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد     وكان عزمك عزما فيه توفيق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 369 ] لكان في الفقه شغل لو قنعت به     عن أن تقول كتاب الله مخلوق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم     ما كان في الفرع لا في الجهل والموق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدمت هذه الأبيات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الخطيب عن يحيى الجلاء أو علي ابن الموفق أنه قال : ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره ، فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا ، ونمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع ، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه ، وحلقة فيها ابن أبي دؤاد وأصحابه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فإن يكفر بها هؤلاء [ الأنعام : 89 ] ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ الأنعام : 89 ] ويشير إلى حلقة أحمد بن حنبل وأصحابه رحمهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : رأيت في المنام ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن قائلا يقول : هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد . فقلت له : وما سبب هلاكه ؟ فقال : إنه أغضب [ ص: 370 ] الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سماوات ، وقال بعضهم : رأيت في تلك الليلة كأن النار زفرت زفرة عظيمة ، فخرج منها اللهب ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : هذه اتخذت لابن أبي دؤاد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان موته في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة وصلى عليه ابنه العباس ، ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة ، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين وبقي طريحا في فراشه لا يقدر على أن يحرك شيئا من جسده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد دخل عليه بعضهم فقال : والله ما جئتك عائدا وإنما جئت لأحمد الله على أن سجنك في جسدك . وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا ، كما تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان كان مولده في سنة ستين ومائة . قلت : فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل ، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان [ ص: 371 ] أنه كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون فحظي عنده ، بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم ، فولاه المعتصم القضاء وعزل ابن أكثم ، وكان لا يقطع أمرا دونه ، فكان عنده خصيصا ; ولاه القضاء والمظالم ، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه ، وجرت بينهما منافسات وهجو ، كما تقدم وقد بالغ ابن خلكان في ترجمته ومدحه ، وذكر من مآثره ومحاسنه فأطنب وأكثر وما أطيب ، ولم يذكر شيئا من مساوئه ، بل ذكر امتحانه للإمام أحمد بن حنبل ذكرا موجزا بأطراف الأنامل ، وهي المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن ، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به من الفالج ، وما صودر به من المال الرابح ، وأن ابنه أبا الوليد محمدا صودر بألف ألف دينار ، وأنه مات قبل أبيه بشهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحافظ ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا مليحا . وقد كان الرجل أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا ، يؤثر العطاء على المنع ، والتفرقة على الجمع ، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس [ ص: 372 ] يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق ، فقال ابن أبي دؤاد : إنه ليعجبني هذان البيتان :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولي نظرة لو كان يحبل ناظر     بنظرته أنثى لقد حبلت مني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن ولدت ما بين تسعة أشهر     إلى نظرتي ابنا فإن ابنها مني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية