الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن سورة التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روي في سبب نزول الآية [ ص: 362 ] وجوه :

أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب ويأكل عند زينب ، فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقولا له : نجد منك ريح المغافير ، قال : " بل شربت عندها عسلا ولن أعود له " ، فنزلت : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك وقيل : إنه شرب عند حفصة ، وقيل : عند سودة ، وأنه حرم العسل ؛ وفي بعض الروايات : " والله لا أذوقه " وقيل : إنه أصاب مارية القبطية في بيت حفصة ، فعلمت به فجزعت منه ، فقال لها : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟ " قالت : بلى ؛ فحرمها وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه وأنزل عليه : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب بذلك .

قال أبو بكر : وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا من تحريم مارية وتحريم العسل ، إلا أن الأظهر أنه حرم مارية وأن الآية فيها نزلت ؛ لأنه قال : تبتغي مرضات أزواجك وليس في ترك شرب العسل رضا أزواجه ، وفي ترك قرب مارية رضاهن فروي في العسل أنه حرمه ، وروي أنه حلف أن لا يشربه وأما مارية فكان الحسن يقول : حرمها ؛ وروى الشعبي عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى وحرم ، فقيل له : الحرام حلال وأما اليمين فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، وقال مجاهد وعطاء : " حرم جاريته " ، وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة وأما قول من قال : إنه حرم وحلف أيضا ، فإن ظاهر الآية لا يدل عليه وإنما فيها التحريم فقط ، فغير جائز أن يلحق بالآية ما ليس فيها ، فوجب أن يكون التحريم يمينا لإيجاب الله تعالى فيها كفارة يمين بإطلاق لفظ التحريم .

ومن الناس من يقول : لا فرق بين التحريم واليمين ؛ لأن اليمين تحريم للمحلوف عليه والتحريم أيضا يمين ؛ وهذا عند أصحابنا يختلف في وجه ويتفق في وجه آخر ، فالوجه الذي يوافق اليمين فيه التحريم أن الحنث فيهما يوجب كفارة اليمين ، والوجه الذي يختلفان فيه أنه لو حلف أنه لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لم يحنث ، ولو قال : " قد حرمت هذا الرغيف على نفسي " فأكل منه اليسير حنث ولزمته الكفارة ؛ لأنهم شبهوا تحريمه الرغيف على نفسه بمنزلة قوله والله لا أكلت من هذا الرغيف شيئا ، تشبيها له بسائر ما حرمه الله من الميتة والدم أنه اقتضى تحريم القليل منه والكثير .

واختلف السلف في الرجل يحرم امرأته ، فروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : " أن الحرام يمين " ، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وطاوس [ ص: 363 ] وروي عن ابن عباس رواية مثله ، وروي عنه غير ذلك وعن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رواية وابن عمر رواية وأبي هريرة وجماعة من التابعين قالوا : " هي ثلاث " وروى خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام بمنزلة الظهار وروى منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " النذر والحرام إذا لم يسم مغلظة ، فتكون عليه رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا " .

وروى ابن جبير عن ابن عباس أيضا : " إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها ، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة " وهذا محمول على أنه إذا لم تكن له نية فهو بمنزلة يمين ، وأنه إن أراد الظهار كان ظهارا . وقال مسروق " ما أبالي إياها حرمت أو قصعة من ثريد " وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن : " ما أبالي حرمت امرأتي أو ماء فراتا " .

قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على أنهم لم يروه يمينا ؛ لأنه لا جائز أن يكون قولهما في تحريم الثريد والماء أنه يمين ، فكأنهما لم يريا ذلك طلاقا ؛ وكذلك نقول : إنه ليس بطلاق إلا أن ينويه ، فلم تظهر مخالفة هذين لمن ذكرنا قولهم من الصحابة واتفاقهم على أن هذا القول ليس بلغو وأنه إما أن يكون يمينا أو طلاقا أو ظهارا واختلف فقهاء الأمصار في الحرام ، فقال أصحابنا : " إن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا ، وإن لم ينو طلاقا فهو يمين وهو مول " وذكر ابن سماعة عن محمد : " أنه إن نوى ظهارا لم يكن ظهارا ؛ لأن الظهار أصله بحرف التشبيه " وروى ابن شجاع عن أبي يوسف في اختلاف زفر وأبي يوسف : " أنه إن نوى ظهارا كان ظهارا " وقال ابن أبي ليلى : " هي ثلاث ولا أسأله عن نيته " وقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم : " الحرام لا يكون يمينا في شيء إلا أن يحرم امرأته فيلزمه الطلاق ، وهو ثلاث ، إلا أن ينوي واحدة أو ثنتين فيكون على ما نوى " وقال الثوري : " إن نوى ثلاثا فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن نوى يمينا فهي يمين يكفرها ، وإن لم ينو فرقة ولا يمينا فليس بشيء هي كذبة " .

وقال الأوزاعي : " هو على ما نوى ، وإن لم ينو شيئا فهو يمين " وقال عثمان البتي " هو بمنزلة الظهار " وقال الشافعي : " ليس بطلاق حتى ينوي فإذا نوى فهو طلاق على ما أراد من عدده ، وإن أراد تحريمها بلا طلاق فعليه كفارة يمين وليس بمول " .

قال أبو بكر : قد جعل أصحابنا التحريم يمينا إذا لم تقارنه نية الطلاق إذا حرم امرأته ، فيكون بمنزلة قوله لها : " والله لا أقربك " فيكون موليا ، وأما إذا حرم غير امرأته من المأكول والمشروب وغيرهما فإنه بمنزلة قوله : " والله [ ص: 364 ] لا آكل منه والله لا أشرب منه " ونحو ذلك ، لقوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فجعل التحريم يمينا ، فصارت اليمين في مضمون لفظ التحريم ومقتضاه في حكم الشرع ، فإذا أطلق كان محمولا على اليمين إلا أن ينوي غيرها فيكون ما نوى ، فإذا حرم امرأته وأراد الطلاق كان طلاقا لاحتمال اللفظ له ؛ وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فإنه متى أراد به الطلاق كان طلاقا ، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة حين طلق امرأته ألبتة : بالله ما أردت إلا واحدة فتضمن ذلك معنيين :

أحدهما : أن كل لفظ يحتمل الثلاث ويحتمل غيرها فإنه متى أراد الثلاث كان ثلاثا ، لولا ذلك لم يستحلفه عليها .

والثاني : أنه لم يلزمه الثلاث بوجود اللفظ وجعل القول قوله للاحتمال فيه ، فصار ذلك أصلا في أن كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره أنا لا نجعله طلاقا إلا بمقارنة الدلالة لإرادة الطلاق ومما يدل على أن اللفظ المحتمل للطلاق يجوز إيقاع الطلاق به وإن لم يكن طلاقا في نفسه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة : " اعتدي " ثم راجعها فأوقع الطلاق بقوله : " اعتدي " لاحتماله له ، ولا نعلم أحدا من السلف منع إيقاع الطلاق بلفظ التحريم ، ومن قال منهم : هو يمين فإنما أراد به عندنا إذا لم تكن له نية الطلاق ولم تقارنه دلالة الحال .

وزعم مالك أن من حرم على نفسه شيئا غير امرأته أنه لا يلزمه بذلك شيء وأن ذلك ليس بيمين ، وقد اقتضى قوله تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك من كونه يمينا ، لقوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وأنه لا يجوز إسقاط موجب هذا اللفظ من كون الحرام يمينا برواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يشرب العسل ، إذ غير جائز الاعتراض على حكم القرآن بخبر الواحد ؛ ولأن من روى اليمين يجوز أن يكون إنما عنى به التحريم وحده ؛ إذ كان التحريم يمينا ويدل من جهة النظر على أن التحريم يمين أن المحرم للشيء على نفسه قد اقتضى لفظه إيجاب الامتناع منه كالأشياء المحرمة ، وذلك في معنى النذر وقول القائل : " لله علي أن لا أفعل ذلك " ، فلما كان النذر يمينا بالسنة واتفاق الفقهاء وجب أن يكون تحريم الشيء بمنزلة النذر فتجب فيه كفارة يمين إذا حنث كما تجب في النذر .

التالي السابق


الخدمات العلمية