الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 348 ] ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير بها وبعثه إلى نائب الخليفة ، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد ، فتحزب أهل ذلك البطريق ، وجاءوا فحاصروا البلد التي بها يوسف بن محمد ، فخرج إليهم ; ليقاتلهم ، فقتلوه وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه ، وهلك كثير من الناس في الثلج من شدة البرد ، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع ; أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جدا ، فقتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة وقتل الأمير نحوا من ثلاثين ألفا وأسر منهم طائفة كبيرة ، ثم سار إلى بلاد الباق من كورة البسفرجان ، وسلك إلى مدن كثيرة كبار ، ومهد الممالك ، ووطد البلاد والنواحي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفر من هذه السنة غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي ، وكان على المظالم فعزله عنها ، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاء [ ص: 349 ] القضاة والمظالم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ربيع الأول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد ، وأخذ ابنه أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد ، فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر ، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار ، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم وكان ابن أبي دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا ثم نفى أهله من سامرا إلى بغداد مهانين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير فقال في ذلك أبو العتاهية :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد وكان عزمك عزما فيه توفيق     لكان في الفقه شغل لو قنعت به
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عن أن تقول كتاب الله مخلوق     ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي عيد الفطر منها أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي ، والجمع بين رأسه وجسده ، وأن يسلم إلى أوليائه ، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا ، واجتمع من العامة في جنازته خلق كثير جدا ، وجعلوا يتمسحون بها ، وبأعواد نعشه وكان يوما مشهودا ، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به ، وأرهج العامة في ذلك فرحا وسرورا ، [ ص: 350 ] فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل ذلك وعن المغالاة في البشر ، ثم كتب إلى الآفاق بالمنع من الكلام ، في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن ، وأظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه ، فاجتمع به فأكرمه ، وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها ، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه ، فاستحيا منه أحمد كثيرا ، فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ، ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص يظن أنه يأكل منه ، وكان الإمام أحمد لا يأكل لهم طعاما ، بل كان صائما مواصلا يطوي تلك الأيام كلها ; لأنه لم يتيسر له شيء يرتضي أكله ، ولكن كان ابناه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز ، وهو لا يشعر بشيء من ذلك ، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وارتفع شأن السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد بن حنبل ، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته أيضا ، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس ، ومن المعظمين للكتاب والسنة والفقه والحديث واتباع الأثر ، وكان قد ولى من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية ، وسوار بن [ ص: 351 ] عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي ، وكلاهما كان أعور ، فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأيت من الكبائر قاضيين     هما أحدوثة في الخافقين
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هما اقتسما العمى نصفين قدا     كما اقتسما قضاء الجانبين
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتحسب منهما من هز رأسا     لينظر في مواريث ودين
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأنك قد وضعت عليه دنا     فتحت بزاله من فرد عين
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هما فأل الزمان بهلك يحيى     إذ افتتح القضاء بأعورين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر ابن أبي جعفر المنصور ، أمير الحجاز .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية