الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل

                                                                                                          730 حدثنا إسحق بن منصور أخبرنا ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له قال أبو عيسى حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح وهكذا أيضا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفا ولا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى بن أيوب وإنما معنى هذا عند أهل العلم لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر في رمضان أو في قضاء رمضان أو في صيام نذر إذا لم ينوه من الليل لم يجزه وأما صيام التطوع فمباح له أن ينويه بعد ما أصبح وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( من لم يجمع الصيام ) قال في النهاية : الإجماع إحكام النية والعزيمة ، أجمعت الرأي وأزمعت وعزمت عليه بمعنى ، انتهى . والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم ( قبل الفجر ) أي [ ص: 353 ] قبل الصبح الصادق ( فلا صيام له ) ظاهره أنه لا يصح الصوم ، بلا نية قبل الفجر فرضا كان أو نفلا ، وإليه ذهب ابن عمر وجابر بن زيد ومالك والمزني وداود ، وذهب الباقون إلى جواز النفل بنية من النهار وخصصوا هذا الحديث بما روي عن عائشة أنها قالت : " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيني ويقول : أعندك غداء؟ فأقول ، لا ، فيقول : إني صائم " ، وفي رواية إني إذن لصائم . و " إذن " للاستقبال ، وهو جواب وجزاء ، كذا في المرقاة .

                                                                                                          قلت : والظاهر الراجح هو ما ذهب إليه الباقون .

                                                                                                          قوله : ( حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح ) قال في المنتقى بعد ذكر هذا الحديث : رواه الخمسة ، وقال في النيل : أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعا ، وأخرجه أيضا الدارقطني . وقال الحافظ في التلخيص : واختلف الأئمة في رفعه ووقفه ، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه : لا أدري أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم لكن الوقف أشبه . وقال أبو داود : لا يصح رفعه . وقال الترمذي : الموقوف أصح . ونقل في العلل عن البخاري أنه قال هو خطأ ، وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف . وقال النسائي : الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه . وقال أحمد : ما له عندي ذلك الإسناد . وقال الحاكم في الأربعين : صحيح على شرط الشيخين . وقال في المستدرك : صحيح على شرط البخاري . قال البخاري : رواته ثقات إلا أنه روي موقوفا . وقال الخطابي : أسنده عبد الله بن أبي بكر والزيادة من الثقة مقبولة . وقال ابن حزم : الاختلاف فيه يزيده قوة . وقال الدارقطني : كلهم ثقات ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          قال الشوكاني : وقد تقرر في الأصول أن الرفع من ثقة زيادة مقبولة ، وإنما قال ابن حزم : الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة ؛ لأن من رواه مرفوعا فقد رواه موقوفا باعتبار الطرق ، قال : وفي الباب عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبد الله بن عباد وهو مجهول ، فقد ذكره ابن حبان في الضعفاء . وعن ميمونة بنت سعد عند ، الدارقطني أيضا بلفظ : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : [ ص: 354 ] من أجمع الصيام من الليل فليصم ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم " ، وفي إسناده الوافدي ، انتهى كلام الشوكاني .

                                                                                                          قوله : ( وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ) واستدلوا بحديث الباب وبحديث عائشة المذكور . وتقرير الاستدلال بأن قوله -صلى الله عليه وسلم- : لا صيام في حديث الباب نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام ، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه إجماع الصيام قبل الفجر ، وقد قام الدليل على أن صيام التطوع لا يشترط فيه الإجماع قبل الفجر وهو حديث حفصة المذكور في الباب ، والظاهر أن النفي متجه إلى الصحة ؛ لأنها أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية . وقد عرفت ما ذهب إليه ابن عمر وجابر بن زيد -رضي الله تعالى عنهما- ومالك وغيرهم ، ولعل حديث عائشة المذكور لم يبلغهم . وفي اللمعات : والمذهب عندنا ـ يعني الحنفية ـ أنه يجوز صوم رمضان والنفل والنذر المعين بنية من نصف النهار الشرعي ، وشرط للقضاء والكفارة والنذر المطلق أن يبيت النية ؛ لأنها غير متعينة فلا بد من التعيين في الابتداء ، والدليل لنا في الفرض ما روي في السنن الأربعة عن ابن عباس قوله -صلى الله عليه وسلم- بعدما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال . " ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه ومن لم يأكل فليصم " ، وأما حديث حفصة مع أنه قد اختلف في رفعه فمحمول على نفي الكمال ، انتهى ما في اللمعات .

                                                                                                          قلت : أجيب عن رواية ابن عباس بأنه إنما صحت النية في النهار في صورة شهادة الأعرابي برؤية الهلال ؛ لأن الرجوع إلى الليل غير مقدور ، والنزاع فيما كان مقدورا فيخص الجواز بمثل هذه الصورة ، أعني من انكشف له في النهار أن ذلك اليوم من رمضان وكمن ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار كالمجنون يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم . وأما الاختلاف في رفع حديث حفصة فأجيب عنه بأن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة . وأما حمله على نفي الكمال فغير ظاهر والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة أو إلى نفي الذات الشرعية . هذا ما عندي ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          [ ص: 355 ]



                                                                                                          الخدمات العلمية