الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 104 ] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى - عليه السلام - ، وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر ، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات ، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك ، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة ، وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة ؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم يصلي هو ، ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وقد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة فجاء المشركون بسلا جزور - أي : كرش بعير بفرثه - فوضعوه عليه وهو [ ص: 105 ] ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره ؟ وهم أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه ؟

                          قال - تعالى - : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة هذا السياق معطوف على السياق الذي قبله بقوله - تعالى - : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر الآيات ، قرأ أبو عمرو ويعقوب ( وعدنا ) من الوعد والباقون ( واعدنا ) من المواعدة ، فقيل : إنها هنا بمعنى الوعد ، وقيل : إن فيها صيغة المفاعلة باعتبار أن الله - تعالى - ضرب لموسى - عليه السلام - موعدا لمكالمته ، وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة فقبل ذلك ثم صعد جبل سيناء في أول الموعد ، وهبط في آخره ، وفرق بين الاتفاق على الشيء بين اثنين أو أكثر كالتلاقي في مكان معين أو زمان معين ، وبين الوعد به من واحد لآخر لا يطلب منه شيء لأجل الوفاء ، كقولك لآخر : سأدعو الله لك في البيت الحرام مثلا - فهذا وعد محض ، وذاك يحتمل الأمرين باعتبارين كعبارة الآية ، والميقات أخص من الوقت ، فهو الوقت الذي قرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج . وفي سورة البقرة : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) ( 5 : 51 ) وهو إجمال لما فصل هنا من قبل ؛ لأن الأعراف مكية والبقرة مدنية فهي متأخرة عنها في النزول ، والمراد بالليلة ما يشمل الليل والنهار في عرف العرب عند الإطلاق .

                          روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية أن موسى قال لقومه : إن ربي واعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلما وصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله - وذكر قصة عجل السامري - وروى الثاني عن أبي العالية في قوله : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة ، فمكث على الطور أربعين ليلة ، وأنزل عليه التوراة في الألواح ، فقربه الرب نجيا وكلمه ، وسمع صريف القلم ، وبلغنا أنه لم يحدث في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور ، وفي معنى هذا روايات أخرى صريحة في أن هذا الزمن ضرب لمناجاة موسى ربه في الجبل منقطعا فيه عن بني إسرائيل ، وهو الحق الموافق لما ورد في هذه السورة وغيرها من قصة السامري ، وعبادة العجل في غيبة موسى ومنه قولهم لهارون : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( 20 : 91 ) وأخرج الديلمي عن ابن عباس - رفعه - " لما أتى موسى ربه ، وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين يوما ، وقد صام ليلهن ونهارهن فكره أن يكلم ربه وريح فمه - ريح فم الصائم - فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بما كان قال : [ ص: 106 ] أي رب ، كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الرائحة ، قال : أو ما علمت يا موسى أن فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ؟ اذهب فصم عشرة أيام ثم ائتني ، ففعل موسى الذي أمره ربه " وهذا الحديث ضعيف السند ومتنه معارض بما أشرنا إليه من آيات قصة السامري ومن الروايات بمعناها .

                          ويستدل الصوفية بهذه الرواية على أيام خلوتهم التي يصومون أيامها الأربعين لا يفطرون إلا على حبات الزبيب ، لما ورد في الأحاديث الصحيحة من النهي عن الوصال في الصيام ، والأولى أن يستأنس بالروايات الصحيحة للتفرغ لذكر الله ومناجاته بالصلاة أربعين يوما وليلة ، فيجعل مقصدا لا وسيلة .

                          وهذا ما ورد في التوراة الحاضرة في المسألة من سفر الخروج ( 24 : 12 وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل ، وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ( 13 ) فقام موسى ويشوع خادمه وصعد موسى إلى جبل الله ( 14 ) وأما الشيوخ فقال لهم : اجلسوا هاهنا ، وهو ذا هارون وحور معكم ، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما ( 15 ) فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب ( 17 ) وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل ، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل ، وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة ) ا هـ .

                          وفي الفصل الرابع والثلاثين منه ما نصه أيضا ( 34 : 27 وقال الرب لموسى اكتب لنفسك هذه الكلمات ، قطعت عهدا معك ومع إسرائيل ( 28 ) وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء ، فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر ) ا هـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية