الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( القسم الرابع ) أن يطلب الداعي من الله تعالى ثبوت ما دل القاطع العقلي على نفيه مما يخل ثبوته بجلال الربوبية وله مثل : أن يعظم شوق الداعي إلى ربه حتى يسأله أن يحل في بعض مخلوقاته حتى يجتمع به أو يعظم خوفه من الله تعالى فيسأل الله ذلك حتى يأخذ منه الأمان على نفسه فيستبدل من وحشته أنسا ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة ذلك على الله فطلب ذلك كفر .

( الثاني ) أن تعظم حماقة الداعي وتجرؤه فيسأل الله تعالى أن يفوض إليه من أمور العالم ما هو مختص بالقدرة والإرادة الربانية من الإيجاد والإعدام والقضاء النافذ المحتم ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة ثبوت ذلك لغير الله تعالى فيكون طلب ذلك طلبا للشركة مع الله تعالى في الملك وهو كفر [ ص: 263 ] وقد وقع ذلك لجماعة من جهال الصوفية فيقولون فلان أعطي كلمة كن ويسألون أن يعطوا كلمة كن التي في قوله تعالى { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت ، وهذه أغوار بعيدة الروم على العلماء المحصلين فضلا عن الصوفية المتخرصين فيهلكون من حيث لا يشعرون ويعتقدون أنهم إلى الله تعالى متقربون وهم عنه متباعدون عصمنا الله تعالى من الفتن وأسبابها والجهالات وشبهها .

( الثالث ) أن يسأل الداعي ربه أن يجعل بينه وبينه نسبا فيحصل له الشرف على الخلائق في الدنيا والآخرة ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة النسب وأسباب الاستيلاد الموجبة للأنساب فيكون هذا الدعاء طلبا لصدور الاستيلاد في حق الله تعالى فيكون كفرا وألحق بهذه المثل نظائرها فهذه كلها وجوه مخلة بجلال الربوبية تقع للعباد الجهال ومن استحوذ عليه الشيطان [ ص: 264 ] وقد قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه إن بناء الكنائس كفر إذا بناها مسلم ويكون ردة في حقه لاستلزامه إرادة الكفر وكذلك أفتى بأن المسلم إذا قتل نبيا يعتقد صحة رسالته كان كافرا لإرادته إماتة شريعته وإرادة إماتة الشرائع كفر . واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليس عذرا للداعي عند الله تعالى ؛ لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها فالعلم والعمل بها واجبان فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل ومن علم وعمل فقد نجا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم } فحكم على جميع الخلائق بالهلاك إلا العلماء منهم .

ثم ذكر شروطا أخر مع العلم في النجاة من الهلاك نعم الجهل الذي لا يمكن رفعه للمكلف بمقتضى العادة يكون عذرا كما لو تزوج أخته فظنها أجنبية أو شرب خمرا يظنه خلا أو أكل طعاما نجسا يظنه طاهرا مباحا فهذه الجهالات يعذر بها إذ لو اشترط اليقين في هذه الصور وشبهها لشق ذلك على المكلفين فيعذرون بذلك ، وأما الجهل الذي يمكن رفعه لا سيما مع طول الزمان [ ص: 265 ] واستمرار الأيام والذي لا يعلم اليوم يعلم في غد ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم فساد فلا يكون عذرا لأحد ولذلك ألحق مالك الجاهل في العبادات بالعامد دون الناسي ؛ لأنه جهل يمكنه رفعه فسقط اعتباره ، وكذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز حكاية عن نوح عليه السلام { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } أي بجواز سؤاله فاشترط العلم بالجواز قبل الإقدام على الدعاء وهو يدل على أن الأصل في الدعاء التحريم إلا ما دل الدليل على جوازه وهذه قاعدة جليلة يتخرج عليها كثير من الفروع الفقهية .

وقد تقدم بسطها في الفروق إذا تقرر هذا فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية وما يجري مجراها حذرا شديدا لما تؤدي إليه من سخط الديان والخلود في النيران وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية ولا يرجع إلى الإسلام ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه نسأل الله تعالى العافية من موجبات عقابه ، وأصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت كما أن أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله تعالى هو المعين على الخير كله فهذه الأربعة الأقسام بتميزها حصل الفرق بين ما هو كفر من الدعاء وما ليس بكفر وهو المطلوب

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( القسم الرابع أن يطلب الداعي من الله تعالى ثبوت ما دل القاطع العقلي على نفيه مما يخل بجلال الربوبية وله مثل : الأول أن يعظم شوق الداعي إلى ربه حتى يسأله أن يحل في بعض مخلوقاته حتى يجتمع به ) قلت الكلام في هذا القسم كالكلام في الذي قبله وقوله هناك وهنا مما يخل بجلال الربوبية صوابه بإجلال الربوبية أما جلال الربوبية فلا يخل به شيء [ ص: 263 ] قال ( وقد وقع ذلك لجماعة من جهال الصوفية فيقولون فلان أعطي كلمة كن ويسألون أن يعطوا كلمة كن التي في قوله تعالى { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت وهذه أغوار بعيدة الروم على العلماء المحصلين فضلا عن الصوفية المتخرصين ، فيهلكون من حيث لا يشعرون ويعتقدون أنهم إلى الله تعالى متقربون وهم عنه متباعدون عصمنا الله تعالى من الفتن وأسبابها والجهالات وشبهها ) قلت إن كان أولئك القوم يعتقدون أن الله يعطي غيره كلمة كن بمعنى أنه يعطيه الاقتدار فذلك جهل شنيع إن أرادوا أنه يعطيه الاستقلال وإلا فهو مذهب الاعتزال وكلاهما كفر بالمآل .

وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى يعطي كن أن يكون لهذا الشخص الكائنات التي يريدها مقرونة بإرادته فعبروا عن ذلك بإعطائه كلمة كن فلا محذور في ذلك إذا اقترن بقولهم قرينة تفهم المقصود قال ( الثاني أن يسأل الداعي ربه أن يجعل بينه وبينه نسبا فيحصل له الشرف على الخلائق في الدنيا والآخرة ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة النسب وأسباب الاستيلاد الموجبة للأنساب ) قلت الكلام في هذا كالكلام فيما قبله [ ص: 264 ] قال ( وقد قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه إن بناء الكنائس كفر إذا بناها مسلم أو يكون ردة في حقه لاستلزامه إرادة الكفر ) قلت معنى قول الأشعري إن بناء الكنائس كفر أي في الحكم الدنيوي ، وأما الأخروي فبحسب النية والله تعالى أعلم . قال ( وكذلك أفتى في المسلم إذا قتل نبيا يعتقد صحة رسالته كان كافرا لإرادته إماتة شريعته وإرادة إماتة الشرائع كفر ) قلت ما قاله الشيخ أبو الحسن في هذه المسألة ظاهر قال ( واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليس عذرا إلى آخره ) قلت ما قاله في هذا الفصل كله صحيح إلا ما قاله من أن الأصل في الدعاء التحريم والاستدلال على ذلك بقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } ففي ذلك نظر وإلا ظهر أن الأصل في الدعاء الندب إلا ما قام الدليل على منعه . [ ص: 265 ] قال ( إذا تقرر هذا فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية ، وما يجري مجراها حذرا شديدا . ثم قال فهذه الأربعة الأقسام بتميزها حصل الفرق بين ما هو كفر من الدعاء ، وما ليس بكفر وهو المطلوب )

قلت لم يحصل المطلوب بما قرر ؛ لأن كل ما ذكره من الأدعية في هذا الفرق لم يأت بحجة على أنه بعينه كفر فهو من باب التكفير بالمآل وهو لا يقول به .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( والقسم الرابع ) أن يطلب الداعي من الله تعالى ثبوت ما دل القاطع العقلي على نفيه مما يخل ثبوته بإجلال الربوبية ومن أمثلته أن يعظم شوق الداعي إلى ربه حتى يسأله أن يحل في بعض مخلوقاته ليجتمع به أو يعظم خوفه من الله تعالى فيسأله تعالى ذلك [ ص: 288 ] ليأخذ منه الأمان على نفسه فيستبدل من وحشته أنسا ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة ذلك على الله تعالى ، ومنها أن تعظم حماقة الداعي وتجريه فيسأل الله تعالى أن يفوض إليه من أمور العالم ما هو مختص بالقدرة القديمة والإرادة الربانية من الإيجاد والإعدام والقضاء النافذ المحتم بأن يسأله تعالى أن يعطيه كلمة كن التي في قوله تعالى { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ولا يعلم معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى وما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت لأحد وهذا غور بعيد الروم على العلماء المحصلين فضلا عمن يسأل ذلك من الصوفية المتخرصين ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة ثبوت ذلك لغير الله تعالى .

( ومنها ) أن يسأل الداعي ربه أن يجعل بينه وبينه نسبا فيحصل له الشرف على الخلائق في الدنيا والآخرة ، وقد دل القاطع العقلي على استحالة النسب وأسباب الاستيلاء الموجبة للأنساب ولا يخفاك أن طلب نفي العلم والقدرة ليس طلبا لضدهما وهما الجهل والعجز كما زعم الأصل لجواز غفلة الداعي وإضرابه عنهما وعلى تقدير عدم الغفلة والإضراب إنما يكون ذلك من التكفير بالمآل ، وإن طلب الداعي من الله تعالى الاستيلاء على نفسه وسلب استيلائه تعالى عليه وارتفاع قضائه وقدره تعالى حتى يستقل بالتصرف في نفسه ويأمن من سوء الخاتمة من جهة القضاء إن أراد أن عينه هو الكفر فلا يسلم إلا أن يثبت أن طلب ذلك كفر لما سبق من أن كون أمر ما كفرا إنما هو وضعي شرعي ، وإن أراد أنه يستلزم الكفر وهو الجهل بكون سلب الاستيلاء مما تتعلق به القدرة أو لا تتعلق فهو من التكفير بالمآل ، وكذلك يقال في طلب الداعي حلوله تعالى في بعض مخلوقاته حتى يجتمع به أو حتى يأخذ منه الأمان على نفسه فيستبدل من وحشته أنسا إلا أنه يقال في الشق الثاني ، وإن أراد أنه يستلزم الكفر وهو الجهل بكون سلب الحلول في بعض مخلوقاته مما تتعلق به القدرة أو لا إلخ فافهم ولا يخفى أيضا أن من يعتقد أن الله يعطي غيره كلمة كن إن عنى بأن الله تعالى يعطي غيره كن أنه يعطيه الاقتدار بالاستقلال فذلك جهل شنيع أو بقدرة يخلقها الله فيه فهو مذهب الاعتزال وكلاهما كفر بالمآل ، وإن عنى بأن الله يعطي غيره كن أن يكون لهذا الشخص الكائنات التي يريدها مقرونة بإرادته معبرا عن ذلك بإعطائه كلمة كن فلا محذور في ذلك إذا اقترن قوله بقرينة تفهم المقصود .

وكذلك يقال في طلب الداعي ربه أن يجعل بينه وبينه نسبا فيحصل له الشرف على الخلائق في الدنيا والآخرة فإنه إن [ ص: 289 ] عنى بجعل الله بينه وبينه نسبا أن يحصل له الشرف على الخلائق بالاستقلال فذلك جهل شنيع أو بقدرة يخلقها الله تعالى فيه فهو مذهب الاعتزال وكلاهما كفر بالمآل ، وإن عنى بذلك أن يحصل له الشرف على الخلائق مقرونا بإرادته تعالى فلا محذور في ذلك إذا اقترن بقرينة تفهم المقصود فتأمل . قال وقول الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنه إن بناء المسلم الكنائس كفر يريد في الحكم الدنيوي ، وأما الأخروي فبحسب النية نعم فتواه بكفر المسلم إذا قتل نبيا يعتقد صحة رسالته لإرادته إماتة شريعته وإرادة إماتة الشريعة كفر ا هـ ظاهر صحتها كقول الأصل إن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية لا يعذر الداعي به عند الله تعالى ؛ لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجة للجاهل لا سيما مع طول الزمان واستمرار الأيام فإن الذي لا يعلم اليوم يعلم في غد ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم فساد فلا يكون عذرا لأن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسالته وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها ، فالعلم والعمل بها واجبان فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين .

وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل ومن علم وعمل فقد نجا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم } فحكم على جميع الخلائق بالهلاك إلا العلماء منهم ثم ذكر شروطا أخر مع العلم في النجاة من الهلاك ولذلك ألحق مالك الجاهل في العبادات بالعامد دون الناسي لأنه جهل يمكنه رفعه فسقط اعتباره نعم الجهل الذي لا يمكن رفعه للمكلف بمقتضى العادة يكون عذرا كما لو تزوج أخته فظنها أجنبية أو شرب خمرا يظنه خلا أو أكل طعاما نجسا يظنه ظاهرا مباحا فهذه الجهالات يعذر بها إذ لو اشترط اليقين في هذه الصور وشبهها لشق ذلك على المكلفين فيعذرون بذلك ا هـ فهذا كله صحيح ، وأما قوله الأصل أن الأصل في الدعاء التحريم مستدلا عليه بقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } ففيه نظر والأظهر أن الأصل في الدعاء الندب إلا ما قام الدليل على منعه ا هـ كلام ابن الشاط بتصرف والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية