الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 351 ] ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )

                          بعد أن أنكر التنزيل في الآية السابقة على المشركين وغيرهم من أهل الملل تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق - قفى عليه ببيان أصول المحرمات العامة التي حرمها لضرر ثابت لازم لها لا لعلة عارضة ، وكلها من أعمالهم الكسبية لا من مواهبه ونعمه الخلقيه ليعلم أنه له الحمد والشكر لم يحرم على الناس إلا ما هو ضار بهم دون ما هو نافع لهم فقال :

                          ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) هذا كلام مستأنف لبيان ما حرمه الله تعالى بعد إنكار أن يكون حرم الزينة والطيبات ؛ لأن الحال تقتضي أن يسأل عنه والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم من أهل الملل الذين ظلموا أنفسهم ، وكذبوا على الله بزعمهم أنه حرم على عباده ما أخرج لهم من نعم الزينة والطيبات من الرزق وكذا لمن اتبعك من المؤمنين : إنما حرم ربي في كتبه ، على ألسنة رسله هذه الأنواع الخمسة أو الستة من أعمالهم الضارة التي يجنون بها على أنفسهم ، فجعل تحريمها هو الدائم الذي لا يباح بحال من الأحوال كما يدل عليه الحصر بـ ( إنما ) وهي :

                          1 ، 2 : الفواحش الظاهرة والباطنة - فالفواحش جمع فاحشة ، وهي الفعلة أو الخصلة التي فحش قبحها في الفطر السليمة والعقول الراجحة التي تميز بين الحسن والقبيح والضار والنافع ، وكانوا يطلقونها على الزنا واللواط والبخل الشديد وعلى القذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح ، وتقدم تفصيل القول في الفواحش ما ظهر منها وما بطن في تفسير ( 6 : 151 ) وهي من آيات الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام ، وفيه إحالة في تفسير ما ظهر منها وما بطن على تفسير ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ( 6 : 120 ) من تلك السورة .

                          3 و 4 : الإثم والبغي - تقدم أن الإثم في اللغة هو القبيح الضار فهو يشمل جميع المعاصي : الكبائر منها كالفواحش والخمر . والصغائر كالنظر واللمس بشهوة لغير الحليلة [ ص: 352 ] وهو اللمم ، ومنه قوله تعالى : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) ( 53 : 32 ) فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم ، فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم ، وهو من عطف الخاص على العام ، وكذلك عطف البغي على الإثم هنا من عطف الخاص على العام . ومعناه في أصل اللغة : طلب لما ليس بحق أو بسهل أو ما تجاوز الحد ، وقالوا : بغى الجرح - إذا ترامى إلى الفساد ، أو تجاوز الحد في فساده . ومنه البغي في الأرض الوارد في عدة آيات كقوله : ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ( 10 : 23 ) وقد صرح في بعضها بالفساد : ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) ( 28 : 77 ) وإذا عدي البغي بـ " على " كان بمعنى التجاوز والتعدي على الناس في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم ومنه : ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) ( 28 : 76 ) ( خصمان بغى بعضنا على بعض ) ( 38 : 22 ) ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ) ( 49 : 9 ) بل ذهب الراغب إلى أن حقيقة البغي طلب تجاوز الاقتصاد في القدر أو الوصف سواء تجاوزه بالفعل أو لم يتجاوزه . وذكر أنه قد يكون محمودا ، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع . واستعمال القرآن له في المعنيين اللذين ذكرناهما آنفا وفي غيرهما يؤيد تعريفنا وهو أعم من هذا التعريف . كقوله في البحرين : ( بينهما برزخ لا يبغيان ) ( 55 : 20 ) وقوله في أهل الجنة : ( لا يبغون عنها حولا ) ( 18 : 108 ) وقوله : ( أفغير دين الله يبغون ) ( 3 : 83 ) ( أفحكم الجاهلية يبغون ) ( 5 : 50 ) ( قل أغير الله أبغي ربا ) ( 6 : 164 ) ( يبغونكم الفتنة ) ( 9 : 47 ) ( ويبغونها عوجا ) ( 7 : 45 ) . ومنه البغاء : وهو طلب النساء الفاحشة . وقد يتعدى إلى مفعولين ومنه : ( أغير الله أبغيكم إلها ) ( 7 : 140 ) ( قل أغير الله أبغي ربا ) وقال في الأساس : وابغني ضالتي - اطلبها لي ، وأبغي ضالتي - أعني على طلبها . قال رؤبة : "

                          فاذكر بخير وأبغني ما يبتغى

                          " أي اصنع بي ما يجب أن يصنع ، وخرجوا بغيانا لضوالهم اهـ . وكله يدخل في تعريفنا . فإن طلب الضالة التي خرجت من حيازة المالك طلب لما يعسر ، بل ناشدها يطلب ما ليس له بالفعل ، ورؤبة يطلب إحسانا وكرامة ليست حقا له .

                          فعلم من هذا أن البغي المحرم هو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق ، أو اعتداء على حقوق أفراد الناس أو جماعاتهم وشعوبهم ؛ ولذلك اقترن الإثم بالعدوان كقوله : ( تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) ( 2 : 85 ) ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ( 5 : 2 ) ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ) ( 5 : 62 ) ومنه : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) ( 2 : 173 ) أي فمن اضطر إلى شيء من محرمات الطعام غير طالب لها لذاتها فإنه غير متجاوز للحق ولا عاد حد الضرورة فيما يتناوله منها ( فلا إثم عليه ) .

                          وقد قيد البغي بكونه بغير الحق لاستعماله بالمعنى اللغوي الذي يشمل تجاوز الحدود [ ص: 353 ] المعروفة أو المألوفة فيما لا ظلم فيه ولا فساد ، ولا هضم لحقوق الجماعات ولا الأفراد ، كالأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها . وقيل : إن القيد للتأكيد .

                          وقال ابن القيم : إن الإثم ما كان محرم الجنس ، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة ، فهو تعدي ما أبيح إلى القدر المحرم ، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه بأخذ زيادة عما له ، وبإتلاف أضعاف ما أتلف عليه ، أو قول أضعاف ما قيل فيه . فهذا كله تعد للعدل . قال : وكذلك ما أبيح له قدر معين منه فتعداه إلى أكثر منه ، كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها ، أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والمعاملة والمداواة ، فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور ، وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور ، فتعدى المباح إلى القدر المحظور ، إلخ ما أطال به في وصف نظر الشهوة ومفاسده .

                          ثم قال : إن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم ، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى والعدوان تعدي الحق في استيفائه إلى أكبر منه ، فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله ( قال ) فههنا أربعة أمور : حق لله وله حد ، وحق لعباده وله حد ، فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما وراءهما ، أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما اهـ .

                          ( 5 ) : الشرك بالله - وهو معروف - وقد بينا أنواعه في مواضع من هذا التفسير ، ومن المعلوم بالضرورة أنه أبطل الباطل ، فلا يمكن أن يقوم عليه حجة من العقل ، ولا سلطان من الوحي ، والسلطان : الحجة البينة ؛ لأن لها سلطة على العقل والقلب . فقوله تعالى : ( وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) بيان للواقع من شركهم ، وتكذيب لهم في مضمون قولهم : ( لو شاء الله ما أشركنا ) ( 6 : 148 ) الآية ونص على أن أصول الإيمان ، يجب أن تكون بوحي من الله مؤيد بالبرهان ، فهو كقوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) ( 23 : 117 ) الآية ، ولا يكون هذا الداعي إلا كذلك . ولكنه تعالى عظم شأن الدليل والبرهان في دينه وناط به تصديق دعوى المدعي وردها ، بصرف النظر عن موضوعها ، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق به ، وهو من فرض المحال ، للمبالغة في فضل الاستدلال ، وقد قال في سياق إقامة البراهين على توحيده : ( أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( 27 : 64 ) على أنه صرح بأنه ليس لديهم برهان فيما أقام على كذبهم فيه البرهان ، وكيف يكون لديهم ما هو في نفسه محال ، كقوله : ( قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو [ ص: 354 ] الغني له ما في السماوات والأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 10 : 68 ) " إن " هنا نافية ، أي ما عندكم أدنى دليل بهذا القول الفظيع الذي تقولونه مع أن ما تبطل البراهين والآيات البينة مثله يحتاج مدعيه إلى أقوى البراهين والحجج وأعظمها سلطانا على العقول ، ولما كان منهم من قد يعترف بأنه قول لا تقوم عليه حجة من العقل ، بل لا يتصور العقل وجوده ، ولكنه يدعي أنه ورد به النقل عن الأنبياء ، وأن المسيح ادعاه لنفسه قال : ( أتقولون على الله ما لا تعلمون ) وهذه الآية تناسب الآية التي نفسرها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية