الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 127 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الآبار ، والأصل فيه : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } وروي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة } ) .

                                      التالي السابق


                                      الشرح : هذان الحديثان صحيحان وهما بعضان من حديثين ، أما الأول فروى أبو هريرة قال { سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته } حديث صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . قال البخاري في صحيحه : هو حديث صحيح وقال الترمذي : حديث حسن وروي { الحل ميتته } وروي " الحلال " وهما بمعنى ، والطهور بفتح الطاء ، وميتته بفتح الميم ، واسم السائل عن ماء البحر عبيد وقيل : عبد ، وأما قول السمعاني في الأنساب : اسمه العركي ففيه إيهام أن العركي اسم علم له ، وليس كذلك ثم العركي وصف له وهو ملاح السفينة .

                                      وأما الثاني فروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال { قيل : يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ، ولحم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم إن الماء طهور لا ينجسه شيء } حديث صحيح رواه الأئمة الذين نقلنا عنهم رواية الأول ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقوله : " أتتوضأ " بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم معناه : تتوضأ أنت يا رسول الله من هذه البئر وتستعمل ماءها في وضوئك مع أن حالها ما ذكرناه ، وإنما ضبطت كونه بالتاء لئلا يصحف ، فيقال : أنتوضأ بالنون ، وقد رأيت من صحفه واستبعد كون النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها .

                                      وهذا غلط فاحش ، وقد جاء التصريح بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم منها في هذا الحديث من طرق كثيرة ، ذكرها البيهقي في السنن الكبير ورواها آخرون غيره . [ ص: 128 ] وفي رواية لأبي داود قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : إنه يستقى لك من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب } ، وهذا في معنى روايات البيهقي وغيره المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم : توضأ منها ، ولهذا قال المصنف : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ من بئر بضاعة } .

                                      وفي رواية الشافعي في مختصر المزني قيل : يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة ، وذكر تمام الحديث ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : { مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة ، فقلت : أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن ، فقال : الماء لا ينجسه شيء } ، فهذه الرواية تقطع كل شك ونزاع . وبضاعة بضم الباء الموحدة ، ويقال بكسرها لغتان مشهورتان حكاهما ابن فارس والجوهري وآخرون ، والضم أشهر ، ولم يذكر جماعة غيره .

                                      ثم قيل : هو اسم لصاحب البئر وقيل : اسم لموضعها وقوله : يلقى فيها الحيض بكسر الحاء وفتح الياء ، وفي رواية المحايض ومعناه : الخرق التي يمسح بها دم الحيض ، قاله الأزهري وغيره ، قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي : لم يكن إلقاء المحيض فيها تعمدا من آدمي ، بل كانت البئر في حدور ، والسيول تكسح الأقذار من الأفنية وتلقيها فيها ، ولا يؤثر في الماء لكثرته ، وكذا ذكر نحو هذا المعنى آخرون ، وقيل : كانت الريح تلقي الحيض فيها حكاه صاحب الحاوي وغيره ، ويجوز : أن يكون السيل والريح يلقيان ، قال صاحب الشامل : ويجوز أن المنافقين كانوا يلقون ذلك .

                                      ( فرع ) الحكم الذي ذكره ، وهو جواز الطهارة بما نبع من الأرض مجمع عليه إلا ما سأذكره إن شاء الله تعالى في البحر وماء زمزم .

                                      ( فرع ) ينكر على المصنف قوله في الحديث الثاني : وروي بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح كما سبق ، وقد سبق في الفصول في مقدمة الكتاب : أنه لا يقال في حديث صحيح روي " بل يقال : بصيغ الجزم [ ص: 129 ] فيقال هنا : { وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة } ، وأما قوله في الحديث الأول لقوله صلى الله عليه وسلم فعبارة صحيحة ; لأنها جزم في حديث صحيح . وهذان الحديثان بعضان ، وقد سبق في المقدمة بيان جواز اختصار الحديث .

                                      ( فرع في فوائد الحديث الأول إحداها ) : أنه أصل عظيم من أصول الطهارة ذكر صاحب الحاوي عن الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي قال : قال الشافعي : هذا الحديث نصف علم الطهارة ( الثانية ) : أن الطهور هو المطهر وسأفرد له فرعا إن شاء الله تعالى ( الثالثة ) : جواز الطهارة بماء البحر ( الرابعة ) : أن الماء المتغير بما يتعذر صونه عنه طهور ( الخامسة ) : جواز ركوب البحر ما لم يهج ، وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج - إن شاء الله تعالى - حيث ذكرها المصنف والأصحاب .

                                      ( السادسة ) : أن ميتات البحر كلها حلال ، إلا ما خص منها وهو الضفدع والسرطان ، وهذا هو الصحيح وفيه خلاف في باب الصيد والذبائح ( السابعة ) : أن الطافي من حيوان البحر حلال ، وهو ما مات حتف أنفه ، وهذا مذهبنا ( الثامنة ) : فيه أنه يستحب للعالم والمفتي إذا سئل عن شيء وعلم أن بالسائل حاجة إلى أمر آخر متعلق بالمسئول عنه لم يذكره السائل أن يذكره له ويعلمه إياه ; لأنه سأل عن ماء البحر فأجيب : بمائه وحكم ميتته ; لأنهم يحتاجون إلى الطعام كالماء .

                                      قال الخطابي : وسبب هذا أن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة ، وعلم حل ميتة البحر يخفى ، فلما رآهم جهلوا أظهر الأمرين ; كان أخفاهما أولى . ونظيره حديث المسيء صلاته ، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة فابتدأ بتعليمه الطهارة ثم الصلاة ; لأن الصلاة تفعل ظاهرا والوضوء في خفاء غالبا ، فلما جهل الأظهر كان الأخفى أولى والله أعلم .

                                      ( فرع ) الطهور عندنا هو المطهر ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وحكاه بعض أصحابنا عن مالك ، وحكوا عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أهل اللغة : أن الطهور هو [ ص: 130 ] الطاهر واحتج لهم بقوله تعالى : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } ومعلوم : أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس ، فعلم أن المراد بالطهور الطاهر ، وقال جرير في وصف النساء :

                                      عذاب الثنايا ريقهن طهور

                                      والريق لا يتطهر به وإنما أراد : طاهر ، واحتج أصحابنا : بأن لفظة طهور حيث جاءت في الشرع المراد بها التطهير ، من ذلك قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } ، فهذه مفسرة للمراد بالأولى .

                                      وقال رسول الله في الحديث الصحيح المذكور في الفصل : { هو الطهور ماؤه } ومعلوم أنهم : سألوا عن تطهير ماء البحر لا عن طهارته ولولا أنهم يفهمون من الطهور المطهر لم يحصل الجواب ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا } رواه مسلم من رواية أبي هريرة أي مطهره ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } رواه مسلم وغيره من رواية حذيفة ، والمراد مطهرة وبكونها مطهرة اختصت هذه الأمة لا بكونها طاهرة ، فإن قيل : يرد عليكم حديث : { الماء طهور } قلنا : لا نسلم كونه مخالفا ، وأجاب أصحابنا عن قوله تعالى : { شرابا طهورا } بأنه تعالى وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير ، وكذا قول جرير حجة لنا ; لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء ، فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره ، ولا يصح حمله على ظاهره ، فإنه لا مزية لهن في ذلك ، فإن كل النساء ريقهن طاهر ، بل البقر والغنم وكل حيوان - غير الكلب والخنزير ، وفرع أحدهما - ريقه طاهر والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : حديث بئر بضاعة لا يخالف حديث القلتين ; لأن ماءها كان كثيرا لا يغيره وقوع هذه الأشياء فيه ، قال أبو داود السجستاني في سننه [ ص: 131 ] سمعت قتيبة بن سعيد يقول : سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قال : أكثر ما يكون الماء فيها إلى العانة قلت : فإذا نقص ؟ قال : دون العورة قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ، ثم ذرعته ، فإذا عرضها ست أذرع ، وقال لي الذي فتح لي الباب يعني باب البستان الذي هي فيه لم يغير بناؤها عما كانت عليه ، قال : ورأيت فيها ماء متغير اللون . قوله : متغير اللون يعني بطول المكث وبأصل المنبع لا بشيء أجنبي ، وهذه صفتها في زمن أبي داود ، لا يلزم أن يكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص خص منه المتغير بنجاسة فإنه نجس للإجماع ، وخص منه أيضا ما دون قلتين إذا لاقته نجاسة كما سنوضحه في موضعه ، إن شاء الله تعالى ، فالمراد : الماء الكثير الذي لم تغيره نجاسة لا ينجسه شيء ، وهذه كانت صفة بئر بضاعة والله أعلم .

                                      ( فرع ) قوله : ماء الأبآر وهو بإسكان الباء وبعدها همزة ، ومن العرب من يقول : آبار بهمزة ممدودة في أوله وفتح الباء ولا همزة بعدها ، وهو جمع بئر جمع قلة ، ويجمع أيضا في القلة أبؤر بإسكان الباء وبعدها همزة مضمومة ، وفي الكثرة بئار بكسر الباء وبعدها همزة ، والبئر مؤنثة مهموزة يجوز تخفيفها بقلب الهمزة ياء .

                                      ( فرع ) قال المزني في المختصر : قال الشافعي : فكل ماء من بحر عذب أو مالح أو بئر أو سماء أو ثلج أو برد مسخن وغير مسخن فسواء والتطهر به جائز ، واعترض عليه وقالوا : مالح خطأ وصوابه : ملح قال الله تعالى { وهذا ملح أجاج } . والجواب : أن هذا الاعتراض جهالة من قائله ، بل فيه أربع لغات ماء ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام ، حكاهن الخطابي وآخرون [ ص: 132 ] من الأئمة ، وقد جمعت ذلك بدلائله وأقوال الأئمة فيه وإنشاد العرب فيه في تهذيب الأسماء واللغات ، فمن الأبيات قول عمر بن أبي ربيعة

                                      ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
                                      .



                                      وقول محمد بن حازم :

                                      تلونت ألوانا علي كثيرة وخالط عذبا من إخائك مالح

                                      فهذا هو الجواب الذي نختاره ونعتقده ، وذكر أصحابنا جوابين أحدهما : هذا والثاني : أن هذه العبارة ليست للشافعي ، بل للمزني ، وعبارة الشافعي في الأم : عذب أو أجاج ، وهذا الجواب : ضعيف جدا لوجهين أحدهما : أن المزني ثقة ، وقد نقله عن الشافعي ولا يلزم من كونه ذكر في الأم عبارة أن لا يذكر غيرها في موضع آخر ولا أن لا يسمعها المزني شفاها ، والثاني : أن هذا الجواب يتضمن تغليط المزني في النقل ، ونسبته إلى اللحن ، ولا ضرورة بنا إلى واحد منهما ، ثم وجدت في رسالة للبيهقي إلى الشيخ أبي محمد الجويني : أن أكثر أصحابنا ينسبون المزني في هذا إلى الغلط ، ويزعمون أن هذه اللفظة لم توجد للشافعي . قال البيهقي : وقد سمى الشافعي البحر مالحا في كتابين : أحدهما : في أمالي الحج في مسألة كون صيد البحر حلالا للمحرم والثاني : في المناسك الكبير وبالله التوفيق .




                                      الخدمات العلمية