الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 593 ] ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها وثبت طائفة من الحوفية من قيس وقضاعة بعامل مصر إسحاق بن سليمان ، فقاتلوه وجرت بها فتنة عظيمة ، فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الأمراء مددا لإسحاق بن سليمان ، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة ، وأدوا ما عليهم من الخراج والوظائف ، واستمر هرثمة نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان ، ثم عزله عنها ، وولى عليها عبد الملك بن صالح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وثبت طائفة من أهل إفريقية ، فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم ، وأخرجوا من كان بها من آل المهلب ، فبعث إليهم الرشيد هرثمة ، فرجعوا إلى الطاعة على يديه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها خرج الوليد بن طريف بالجزيرة ، وحكم بها وقتل خلقا من أهلها ، ثم مضى منها إلى أرمينية ، فكان من أمره ما سنذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها سار الفضل بن يحيى إلى خراسان ، فأحسن السيرة بها ، وبنى فيها [ ص: 594 ] الربط والمساجد ، وغزا ما وراء النهر ، واتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية ، وجعل ولاءهم لهم وكانوا نحوا من خمسمائة ألف ، وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد فكانوا يعرفون بها بالكرنبية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما الفضل إلا شهاب لا أفول له عند الحروب إذا ما تأفل الشهب     حام على ملك قوم عز سهمهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من الوراثة في أيديهم سبب     أمست يد لبني ساقي الحجيج بها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كتائب ما لها في غيرهم أرب     كتائب لبني العباس قد عرفت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما ألف الفضل منها العجم والعرب     أثبت خمس مئين في عدادهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من الألوف التي أحصت لها الكتب     يقارعون عن القوم الذين هم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا     إن الجواد ابن يحيى الفضل لا ورق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يبقى على جود كفيه ولا ذهب     ما مر يوم له مذ شد مئزره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلا تمول أقوام بما يهب     كم غاية في الندى والبأس أحرزها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      للطالبين مداها دونها تعب     يعطي اللهى حين لا يعطي الجواد ولا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ينبو إذا سلت الهندية القضب     ولا الرضا والرضا لله غايته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب     قد فاض عرفك حتى ما يعادله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      غيث مغيث ولا بحر له حدب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 595 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن الجود من لدن آدم     تحدر حتى صار في راحة الفضل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما أبو العباس راحت سماؤه     فيا لك من هطل ويا لك من وبل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أم طفل راعها جوع طفلها     دعته بإسم الفضل فاستطعم الطفل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليحيى بك الإسلام إنك عزه     وإنك من قوم صغيرهم كهل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأمر له بمائة ألف درهم . ذكر ذلك كله أبو جعفر بن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سلم الخاسر فيهم أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكيف تخاف من بؤس بدار     تكنفها البرامكة البحور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوم منهم الفضل بن يحيى     نفير ما يوازنه نفير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      له يومان يوم ندى وبأس     كأن الدهر بينهما أسير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما البرمكي غدا ابن عشر     فهمته أمير أو وزير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفق للفضل بن يحيى في هذه السفرة إلى خراسان أشياء غريبة ، وفتح بلادا كثيرة ، منها كابل وما وراء النهر ، وقهر ملك الترك هناك وكان ممتنعا ، وأطلق أموالا كثيرة جدا ، ثم قفل راجعا إلى بغداد ، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه ، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس ، فجعل يطلق الألف ألف ، والخمسمائة ألف ونحوها ، فصرف من الأموال في ذلك شيئا كثيرا [ ص: 596 ] جدا لا يمكن حصره إلا بكلفة عظيمة ، وقد دخل عليه بعض الشعراء ، والبدر موضوعة مختومة بين يديه ، وهي تفرق على الناس ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد     وجود يديه بخل كل بخيل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأمر له بمال جزيل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وغزا الصائفة في هذه السنة معاوية بن زفر بن عاصم ، وغزا الشاتية سليمان بن راشد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو نائب مكة ، كرمها الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي جعفر بن سليمان ، وعبثر بن القاسم ، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم القاضي ببغداد ، وصلى عليه الرشيد ، ودفن بها ، وقد قيل : إنه مات في التي قبلها . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية