الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين )

                          كانت الآية الأولى من السورة في بيان إنزال الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به كل الناس ، وذكرى وموعظة لأهل الإيمان ، والآية الثانية استئناف بياني لما يبدأ به من التبليغ ، وهو أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم ، وألا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع الخاص بالرب تعالى . ولما كان الإنذار تعليما مقرونا بالتخويف من عاقبة المخالفة قفى على هذه القاعدة الأولى - التي هي أم القواعد لأصول الدين - بالتخويف من عاقبة المخالفة لها ولما يتلوها من أصول الدين وفروعه ، فبدأ في هاتين الآيتين بالتخويف من عذاب الدنيا فقال :

                          ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) " كم " خبرية تفيد الكثرة والقرية تطلق على الأمة ، قال الراغب : القرية للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ( أي معا ) ويستعمل لكل منهما ، قال تعالى : ( واسأل القرية ) ( 12 : 82 ) قال كثير من [ ص: 276 ] المفسرين : معناه أهل القرية . وقال بعضهم : بل القرية هاهنا القوم أنفسهم . اهـ . أي من غير تقدير مضاف ، والذين يقولون بالتقدير يرون أنه لا حاجة إليه هنا لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها ، ولكنهم يقدرون المضاف في قوله : ( فجاءها بأسنا ) فيقولون : جاء أهلها بأسنا - بدليل وصفهم بالبيات والقيلولة ، والمدينة لا تبيت ولا تقيل ، والبيات : الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به فيه على غفلة منه فهو اسم للتبييت ، وهو يشمل ما يدبره المرء أو ينويه ليلا ، ومنه تبيت نية الصيام . وقيل : يأتي مصدرا لبات يبيت إذا أدركه الليل . والبأس الشدة والقوة والعذاب الشديد وهو المراد هنا ، والقائلون : هم الذين يقيلون ، أي ينامون للاستراحة وسط النهار ، وقيل : يستريحون وإن لم يناموا ، يقال : قال يقيل قيلا وقيلولة .

                          والمعنى : وكثيرا من القرى أهلكناها لعصيان رسلها فيما جاءوها به من عند ربها ، فكان هلاكها على ضربين ، بأن جاء بعضهم بأسنا حال كونهم مبيتين أو بائتين ليلا كقوم لوط ، وجاء بعضهم وهم قائلون آمنون نهارا كقوم شعيب . والوقتان وقتا دعة واستراحة ، ففيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام ، ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الاستحقاق له الذي هو مظنة الدوام ، وقد يعذر بالغفلة قبل مجيء النذير ، وأما بعده فلا عذر ولا عذير ، وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم ، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن ، أو سنن الله في نوع الإنسان ، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلا على الهلاك ، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب .

                          وقد استشكل بعض المفسرين من الآية ما لا إشكال فيه ، إذ ظنوا أن عطف " جاءها " على " أهلكنا " بالفاء يفيد أن مجيء البأس وقع عقب الإهلاك وهو محال لأنه سببه ، غافلين عن كونه بيانا تفصيليا لنوعين منه ، أحدهما ليلي والآخر نهاري كما بيناه آنفا ، وتفصى بعضهم كالزمخشري منه بأن المراد بالإهلاك إرادته كما أن المراد من قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة ) ( 5 : 6 ) إذا أردتم القيام إليها .

                          وفي الآية من مباحث اللغة والبلاغة أن قوله تعالى : ( أو هم قائلون ) جملة حالية حذف منها واو الحال لاستثقال الجمع بينها وبين واو العطف والأصل : أو هم قائلون . ولم أر أحدا تعرض لنكتة الجمع بين الحال المفردة وجملة الحال هنا ، والظاهر أن المقام مقام الإفراد ، لا كقوله تعالى : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ) ( 4 : 43 ) حيث انفردنا ببيان فرق وجيه بين الحالين هنالك يقتضيه المعنى وينطبق على ما حققه [ ص: 277 ] الإمام عبد القاهر في الفرق بينهما ، ولا يأتي مثله هنا لأن الفرق بين الحالين خاص بما كانت الحال فيه وصفا لفاعل العامل فيها كآية النساء ومثل قولك : نذرت أن أعتكف صائما أو وأنا صائم ، وهي هنا وصف لمفعوله فتأمل . وقد بحث المفسرون الذين يعنون بالإعراب في مسألة الواو في الجملة الفعلية هل هي لام العطف أو غيرها ، ومتى تجب في الجملة الحالية هي والضمير معا ومتى يجب أحدهما ، وهي مباحث لفظية نعدوها لأنها قلما تفيد في المعاني ونكت البلاغة فائدة تذكر .

                          ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) الدعوى في اللغة اسم لما يدعيه الإنسان ، والادعاء نفسه ، والدعاء بمعانيه ، والقول مطلقا ، ففي المصباح : ودعوى فلان كذا - أي قوله اهـ . ومعنى الآية على هذا : فما كان قولهم - وعلى ما قبله : ( فما ) كانت غاية ما يدعونه من الدين وزعمهم فيه أنهم على الحق - أو كانوا يدعونه على الرسل من التكذيب وإرادة التفضل عليهم - إلا الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم فيما كانوا عليه والشهادة ببطلانه . وفي التقدير الأول الإخبار بنوع من القول عن جنسه ، وهو غير الإخبار بالشيء عن نفسه ، والأول صحيح فصيح وإن اتحدت المادة ، كقوله تعالى : ( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ) ( 3 : 147 ) فكيف إذا اختلفت كما هنا .

                          والعبرة في الآية : أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب ، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب ، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم ، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب ، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له ، مثال ذلك أن ما يتولد من شرب الخمر من الأمراض والآلام لا يعرف أكثر السكارى منه غير ما يعقب الشرب من صداع وغثيان ، وهو مما يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه ، وأما ما يولده السكر من أمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي ، وما يترتب عليه من ضعف النسل واستعداده للأمراض وانقطاعه أحيانا وغير ذلك من الأمراض الجسدية والعصبية ( العقلية ) فهي تحصل ببطء ، وقلما يعلم غير الأطباء أنها من تأثير السكر . ثم قلما يفيد العلم بها بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة أن تحمل السكور على التوبة ؛ لأن داء الخمار يزمن وحب السكر يضعف الإرادة ، ومضار الزنا الجسدية أخفى من مضار الخمر والميسر ، ومفاسده الاجتماعية أخفى من مضاره الجسدية ، فما كل أحد يفطن لها . ويا ليت كل من علم [ ص: 278 ] بضرر ذنبه بعد وقوعه يرجع عنه ويتركه ويتوب إلى الله تعالى منه ، ولا يكتفي بالاعتراف بظلمه ، ولا بالإقرار بذنبه ، فإن هذه لا فائدة له فيه لا في دنياه ، ولا في دينه ، وإذا كان الراسخ في الفسق لا يتوب من ذنب وقع عليه ضرره وعلم به ، فكيف يتوب من ذنب لم يصبه منه ضرر أو أصابه من حيث لا يدري به ؟ إنما تسهل التوبة على المؤمنين الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، وإلا فهي لأولي العزائم القوية الذين تقهر إرادتهم شهواتهم فهم الأقلون .

                          وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ، ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد ، وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد ، فإذا ظهر الظلم واختلال النظام ونشأ الترف وما يلزمه من الفسق والفجور في أمة من الأمم تمرض أخلاقها فتسوء أعمالها وتنحل قواها ، ويفسد أمرها وتضعف منعتها ، ويتمزق نسيج وحدتها ، حتى تحسب جميعا وهي شتى - فيغري ذلك بعض الأمم القوية بها ، فتستولي عليها ، وتستأثر بخيرات بلادها ، وتجعل أعزة أهلها أذلة . فهذه سنة مطردة في الأمم على تفاوت أمزجتها وقواها ، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع عقوبتها ، ولا ينفعها بعده أن يقول العارفون : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . على أنه قد يعمها الجهل حتى لا تشعر بأن ما حل بها ، إنما كان مما كسبت أيديها ، فترضى باستذلال الأجنبي ، كما رضيت من قبل بما كان سببا له من الظلم الوطني ، فينطبق عليها قولنا في المقصورة :


                          من ساسه الظلم بسوط بأسه هان عليه الذل من حيث أتى     ومن يهن هان عليه قومه
                          وعرضه ودينه الذي ارتضى



                          وقد تنقرض بما يعقبه الفسق والذل من قلة النسل ولا سيما فشو الزنا والسكر ، أو تبقى منها بقية مدغمة في الكثرة الغالبة لا أثر لها تعد به أمة . وقد تتوالى عليها العقوبات حتى تضيق بها ذرعا ، فتبحث عن أسبابها ، فلا تجدها بعد طول البحث إلا في أنفسها ، وتعلم صدق قوله تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ( 42 : 30 ) ثم تبحث عن العلاج فتجده في قوله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( 11 :13 ) وإنما يكون التغيير بالتوبة النصوح ، والعمل الذي تصلح به القلوب فتصلح الأمور ، كما قال العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء بهم : اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ، ولم يرفع إلا بتوبة . خلافا للحشوية الذين يستدلون به على أن البلاء إنما يرتفع كرامة للصالحين الذين يتوسل بهم المذنبون والمفسدون . ومتى علمت الأمة داءها وعلاجه فلا تعدم الوسائل له .

                          [ ص: 279 ] فلينظر القارئ أين مكان الشعوب الإسلامية من هذه العبرة ، والشعور بعقوبة الجناية والحاجة إلى علاج التوبة ، وقد ثلت عروشها ، وخوت صروح عظمتها على عروشها ، وكانت أجدر الشعوب بمعرفة سنن الله في هلاك الأمم واتقائها ، وأسباب حفظ الدول وبقائها ، فقد أرشدها إليه القرآن ، ولكن أين هي من هداية القرآن ، وقد ترك تذكيرها به العلماء ، فهجره الدهماء ، وجهل أحكامه وحكمه الملوك والأمراء ، ثم نبتت فيها نابتة لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، أقنعهم أساتذتهم أعداء الإسلام ، بأن لا سبب لهبوطها وسقوطها إلا اتباع القرآن ، فأضلوهم السبيل ، ولفتوهم عن الدليل ، فذنب هؤلاء أنهم يجهلونه ، وذنب أولئك أنهم لا يقيمونه ، هؤلاء مقلدة للأجانب الطامعين الخادعين ، وأولئك مقلدة لشيوخ الحشوية الجامدين ، فمتى تنتشر دعوة المصلحين أولي الاستقلال ، فتجمع الكملة بما أوتيت من الحكمة والاعتدال ، على قول الكبير المتعال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية