الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 3 ] الجزء الثاني

                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم )

                          كان أنبياء بني إسرائيل يصلون إلى بيت المقدس ، وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم ، وقد صلى النبي والمسلمون إليها زمنا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتشوف لاستقبال الكعبة ، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها ; بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكة فيصلي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال ، فلما هاجر منها إلى المدينة تعذر هذا الجمع ، فتوجه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة ، فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية ، وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه ، وتلقينهم الحجة البالغة عليه والحكمة السديدة فيه ، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان ، كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها ، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين ; لإمالتهم عن التقليد الأعمى [ ص: 4 ] فيه ، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها ، قال عز وجل :

                          ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) السفه والسفاهة : الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق . يقال : سفه حلمه ورأيه ونفسه ، ومنه زمام سفيه ; أي : مضطرب لمرح الناقة ومنازعتها إياه . واضطراب الحلم - العقل - والرأي : جهل وطيش ، واضطراب الأخلاق : فساد فيها لعدم رسوخ ملكة الفضيلة . قال البيضاوي في تفسير السفهاء وأحسن ما شاء : هم الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر ، يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين . وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس وإعداد الجواب ا هـ .

                          وولاه عن الشيء : صرفه عنه ، والاستفهام للإنكار والتعجب ، والمعنى : سيقول سفهاء الأحلام السخفاء : أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين فحولهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وهي قبلة النبيين من قبلهم ؟ وهاك تفصيل الجواب : ليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها ، وليس لها منافع وخواص لا توجد في غيرها ، ولا هيكل سليمان في نفسه - من حيث هو حجر وطين - أفضل من سائر الأبنية ، وكذلك يقال في الكعبة والبيت الحرام كما تقدم في تفسير : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) ( 2 : 127 ) وإنما يجعل الله للناس قبلة ; لتكون جامعة لهم في عبادتهم إلى آخر ما تقدم شرحه في تفسير : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ( 2 : 115 ) وفي الكلام على الكعبة والحج ، ولكن سفهاء الأحلام من أهل الجمود والمقلدين لهم يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعينة أو البناء المعين ; ولذلك كانت الحجة التي لقنها الله لنبيه في الرد على السفهاء الجاهلين لهذه الحكمة ( قل لله المشرق والمغرب ) أي : إن الجهات كلها لله تعالى لا فضل لجهة منها بذاتها على جهة ، وإن لله أن يخصص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء ، وهو الذي ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) وهو صراط الاعتدال في الأفكار والأخلاق والأعمال ، كما يبين في الآية الآتية . فعلم أن نسبة الجهات كلها إلى الله تعالى واحدة ، وأن العبرة في التوجه إليه سبحانه بالقلوب ، واتباع وحيه في توجه الوجوه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية