الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والخمسون والمائتان بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز ) أما الغيبة فقد تقدم بيانها وإنما حرمت لما فيها من مفسدة إفساد الأعراض ، والنميمة أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرض لأذاه فحرمت لما فيها من مفسدة إلقاء البغضة بين الناس ، ويستثنى منها النصيحة فيقول له إن فلانا يقصد قتلك ونحو ذلك ؛ لأنه من النصيحة الواجبة كما تقدم في الغيبة والهمز تعييب الإنسان بحضوره واللمز هو تعييبه بغيبته فتكون هي الغيبة وقيل : بالعكس

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السادس والخمسون والمائتان بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز ) ، وهو أنه قد تقدم تعريف الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره إن سمعه وتقدم أنها إنما حرمت لما فيها من مفسدة إفساد العرض وعرفوا النميمة بأنها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم فحرمت لما فيها من مفسدة إلقاء البغضة بين الناس ويستثنى منها ما كان النقل فيها على جهة النصيحة كأن يقول له : إن فلانا يقصد قتلك ونحو ذلك ؛ لأنها من النصيحة الواجبة كما تقدم في الغيبة قال في الإحياء : وما ذكر في تعريف النميمة هو الأكثر ، ولا يختص بذلك بل هي كشف ما يكره كشفه سواء أكرهه المنقول عنه أو إليه أو ثالث ، وسواء كان كشفه بقول أو كتابة أو رمز أو إيماء ، وسواء في المنقول كونه فعلا ، أو قولا عيبا أو نقصا في المنقول عنه ، أو غيره فحقيقة النميمة إفشاء السر ، وهتك الستر عما يكره كشفه ، وحينئذ ينبغي السكوت عن حكاية كل شيء شوهد من أحوال الناس إلا ما في حكايته نفع لمسلم أو دفع ضر كما لو رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به بخلاف ما لو رأى من يخفي مال نفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر .

فإن كان ما ينم به نقصا أو عيبا في المحكي عنه فهو غيبة ونميمة . ا هـ . قال ابن حجر في الزواجر : وما ذكره إن أراد بكونه نميمة أنه كبيرة في سائر الأحوال التي ذكرها ففيه بإطلاقه نظر ظاهر ؛ لأن ما فسروا به النميمة لا يخفى أن وجه كونه كبيرة ما فيه من الإفساد المترتب عليه من المضار والمفاسد ما لا يخفى ، والحكم على ما هو كذلك بأنه كبيرة ظاهر جلي ، وليس في معناه بل ولا قريبا منه مجرد الإخبار بشيء عمن يكره كشفه من غير أن يترتب عليه ضرر ، ولا هو عيب ، ولا نقص فالذي يتجه في هذا أنه ، وإن سلم للغزالي تسميته نميمة لا يكون كبيرة ، ويؤيده أنه نفسه شرط في كونه غيبة كونه عيبا ونقصا حيث قال : فإن كان ما ينم به نقصا إلخ فإذن لم توجد الغيبة إلا مع كونه نقصا فالنميمة الأقبح من الغيبة ينبغي أن لا توجد بوصف كونها كبيرة إلا إذا كان فيما ينم به مفسدة تقارب مفسدة الإفساد التي صرحوا به فتأمل ذلك فإني لم أر من نبه عليه ، وإنما ينقلون كلام الغزالي ، ولا يتعرضون لما فيه مما نبهت عليه نعم من قال : إن الغيبة كبيرة مطلقا ينبغي أنه لا يشترط في النميمة إلا أن يكون فيها مفسدة كمفسدة الغيبة ، وإن لم [ ص: 233 ] تصل إلى مفسدة الإفساد بين الناس قال : والباعث على النميمة منه إرادة السوء بالمحكي عليه أو الحب للمحكي له أو الفرح بالخوض في الفضول ، وعلاج النميمة هو نحو ما قالوه في علاج الغيبة .

وهو إما إجمالي بأن تعلم أنك قد تعرضت بها لسخط الله - تعالى - وعقوبته كما دلت عليه الآية والأخبار التي وردت في ذلك وأنها تحبط حسناتك لما في خبر مسلم في المفلس من أنه تؤخذ حسناته إلى أن تفنى فإن بقي عليه شيء وضع عليه من سيئات خصمه ، ومن المعلوم أن من زادت حسناته كان من أهل الجنة أو سيئاته كان من أهل النار فإن استويا فمن أهل الأعراف كما جاء في حديث فاحذر أن تكون الغيبة سببا لفناء حسناتك وزيادة سيئاتك فتكون من أهل النار على أنه روي أن الغيبة والنميمة تحتان الإيمان كما يعضد الراعي الشجرة ومما ينفعك أيضا أنك تتدبر في عيوبك ، وتجتهد في الطهارة منها وتستحيي من أن تذم غيرك بما أنت متلبس به ، أو بنظيره فإن كان أمرا خلقيا فالذم له ذم للخالق إذ من ذم صنعة ذم صانعها فإن لم تجد لك عيبا ، وهو بعيد فاشكر الله ؛ إذ تفضل عليك بالنزاهة عن العيوب وينفعك أيضا أن تعلم أن تأذي غيرك بالغيبة كتأذيك بها فكيف ترضى لغيرك ما تتأذى به ، وإما تفصيلي بأن تنظر في باعثها فتقطعه من أصله ؛ إذ علاج العلة إنما يكون بقطع سببها ، وإذا استحضرت البواعث عليها ، وهي كثيرة منها الغضب والحقد وتشفي الغيظ بذكر مساوئ من أغضبك ، ومنها موافقة الإخوان ومجاملتهم بالاسترسال معهم فيما هم فيه ، أو إبداء نظير ما أبدوه خشية أنه لو سكت أو أنكر استثقلوه .

ومنها الحسد لثناء الناس عليه ومحبتهم له ، ومنها قصد المباهاة وتزكية النفس ، ومنها السخرية والاستهزاء به تحقيرا له ظهر لك السعي في قطعها كأن تستحضر في الغضب أنك إن أمضيت غضبك فيه بغيبة أمضى الله غضبه فيك لاستخفافك بنهيه وجراءتك على وعيده ، وفي حديث أن { لجهنم بابا لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله - تعالى - } وفي الموافقة أنك إذا أرضيت المخاليق بغضب الله عاجلك بعقوبته ؛ إذ لا أغير من الله - تعالى - وفي الحسد أنك جمعت بين خسار الدنيا بحسدك له على نعمته وكونه معذبا بالحسد وخسارة الآخرة ؛ لأنك نصرته بإهداء حسناتك إليه أو طرح سيئاته عليك فصرت صديقه وعدو نفسك فجمعت إلى خبث حسدك جهل حماقتك ، وربما كان ذلك منك سبب انتشار فضله كما قيل

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود



[ ص: 234 ] وفي قصد المباهاة وتزكية النفس أنك بما ذكرته فيه أبطلت فضلك عند الله وأنت لست على ثقة من اعتقاد الناس فيك بل ربما مقتوك إذا عرفوك بثلب الأعراض وقبح الأغراض فقد بعت ما عند الله يقينا بما عند المخلوق العاجز وهما ، وفي الاستهزاء أنك إذا أخزيت غيرك عند الناس فقد أخزيت نفسك عند الله ، وشتان ما بينهما ، وعلاج بقية البواعث ظاهر مما تقرر فلا حاجة للإطالة به . ا هـ . قال الأصل : والهمز تعييب الإنسان بحضوره ، واللمز تعييبه بغيبته فتكون هي الغيبة وقيل : بالعكس . ا هـ . أي أن اللمز تعييبه بحضوره والهمز تعييبه بغيبته فتكون هي الغيبة على ما للأصل نظرا لزيادة إن سمع في حديث تفسير الغيبة وصححه ابن الشاط ووافقه غير واحد من المحققين كالسيد الجرجاني فقال في تعريفاته : الغيبة ذكر مساوئ الإنسان في غيبته ، وهي فيه وإن لم تكن فيه فهي بهتان ، وإن واجهه بها فهو شتم . ا هـ . بلفظه .

وقال ابن حجر في الزواجر : علم من خبر مسلم السابق أي في تفسير الغيبة بدون الزيادة التي ذكرها الأصل فيه مع ما صرح به الأئمة أن الغيبة أن تذكر مسلما أو ذميا على الوجه بل الصواب معينا للسامع حيا أو ميتا بما يكره أن يذكر به مما هو فيه بحضرته أو غيبته ، والتعبير بالأخ في الخبر كالآية للعطف ، والتذكير بالسبب الباعث على أن الترك متأكد في حق المسلم أكثر ؛ لأنه أشرف وأعظم حرمة قال : وعدم الفرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد ، وفي الخادم : ومن المهتم به ضابط الغيبة هل هي ذكر المساوئ في الغيبة كما يقتضيه اسمها ، أو لا فرق بين الغيبة والحضور ، وقد دار هذا السؤال بين جماعة ثم رأيت ابن فورك ذكر في مشكل القرآن في تفسير الحجرات ضابطا حسنا فقال : الغيبة ذكر الغير بظهر الغيب وكذا قال سليم الرازي في تفسير الغيبة : أن تذكر الإنسان من خلفه بسوء ، وإن كان فيه وفي المحكم لا تكون إلا من ورائه وقال ابن حجر أيضا : واللمز بالقول وغيره ، والهمز بالقول فقط وروى البيهقي عن ابن جريج أن الهمز بالعين والشدق واليد ، واللمز باللسان قال البيهقي وبلغني عن الليث أنه قال اللمزة الذي يعيبك في وجهك ، والهمزة الذي يعيبك بالغيب وفي الإحياء قال مجاهد : ويل لكل همزة لمزة الهمزة الطعان في الناس واللمزة الذي يأكل لحوم الناس . ا هـ . المراد ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




الخدمات العلمية