الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ) قد كان ما تقدم من هذه السورة بيانا مفصلا لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث ، ودحضا لشبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث ، وعلى أعمالهم التي هي مظاهر شركهم من تحريم وتحليل ، وخرافات وتضليل ، وأوهام وأباطيل ، وقد جاء في هذه الآيات بشبهة من أكبر شبهاتهم التي ضل بمثلها كثير من الكفار قبلهم ، ولم يكونوا أوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى جعل هذه السورة جامعة لكل ما يتعلق بتقرير العقائد وإثباتها بالحجة الناهضة ، وإبطال ما يرد عليها من الشبهات الداحضة ، ما قيل منها ، وما سيقال للرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 155 ] بعد نزولها . فذكرها ورد عليها بما يبطلها ، فكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها ، وذلك قوله عز وجل :

                          ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) أي سيقول هؤلاء المشركون : لو شاء الله تعالى ألا نشرك به من اتخذنا له من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر ، وألا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم وسائر ما يذكر بهم - وألا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك لما أشركوا ولا أشركنا - ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرهما لما حرمنا . أي ولكنه شاء أن نشرك هؤلاء الأولياء والشفعاء به وهم له يقربوننا إليه زلفى ، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها ، فإتياننا ما ذكر دليل على مشيئة الله تعالى له ، بل على رضاه وأمره به أيضا ، - كما حكى عنهم في آية أخرى بقوله : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 7 : 28 ) وقيل : أرادوا أن مشيئته ملزمة ومجبرة ، فهم غير مختارين في ذلك . ولما وقع هذا القول منهم بالفعل حكاه تعالى عنهم بقوله في سورة النحل : ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) ( 16 : 35 ) وفي معناه قوله تعالى في سورة الزخرف : ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ) ( 43 : 20 ) .

                          وقد رد تعالى شبهتهم هنا بقوله : ( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) إلخ .

                          أي مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية ، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم ، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم . أي مثله في كونه تكذيبا جهليا غير مبني على أساس من العلم ، والرسل - ولا سيما خاتمهم عليهم الصلاة والسلام - قد أقاموا الحجج العلمية والعقلية على التوحيد وغيره ، وأيدهم الله تعالى بالآيات البينات ، ولكن المكذبين لم ينظروا في هذه الآيات نظر الإنصاف لاستبانة الحق ، بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى ، وهو عذاب الاستئصال للمعاندين الذين اقترحوا على رسلهم آيات معينة فجعلها الرسل نذيرا لهم بالاستئصال فتماروا بالنذر ، وما دونه لغيرهم . ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجبارا مخرجا لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه . وهو قد قال إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم - ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة لرضاه عن فاعله وأمره إياه به - خلافا لما قال الرسل - لما عاقبهم عليه تصديقا للرسل . فقوله تعالى : ( حتى ذاقوا بأسنا ) بيان للبرهان الفعلي الواقع الدال على صدق [ ص: 156 ] الرسل في دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم ، وأمثالهم من الجبرية الذين عطلوا شرائعهم ، وهم يزعمون كمال الإيمان بها وبهم .

                          وبعد هذا التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) أي هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ، ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم ، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح ؟ والاستفهام هنا للتعجيز والتوبيخ ; ولذلك قفى عليه بيان حقيقة حالهم فقال : ( إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) أي لستم على شيء ما من العلم ، بل ما تتبعون في بقائكم على ما أنتم عليه من عقيدة وقول في الدين وعمل به إلا الظن ، وهو في اللغة ما ليس من مدركات الحس ولا ضروريات العقل ، وقد يكون منه ما يؤخذ من نظريات يطمئن لها القلب ويرجحها العقل ، وهم لم يكونوا على هذا النوع منه ، وإن كان لا يكفي في إثبات أصلي الدين وهما عقائده وقواعد التشريع التي يجب الجزم بها ، بل كانوا يتبعون أدنى درجاته وأضعفها لا يعدونها ، وهي درجة الخرص ، أي الحزر والتخمين الذي لا يمكن أن يستقر عنده الحكم ، كخرص ما يأتي من النخيل أو الكرم من التمر والزبيب ، وكثيرا ما يطلق الخرص على لازمه الذي يندر أن يفارقه وهو الكذب ، وقد فسر به هنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية