الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السادس والأربعون والمائتان بين قاعدة الحدود وقاعدة التعازير من وجوه عشرة ) . ( أحدها ) أنها غير مقدرة واختلفوا في تحديد أكثره واتفقوا على عدم تحديد أقله فعندنا هو غير [ ص: 178 ] محدود بل بحسب الجناية والجاني والمجني عليه وقال أبو حنيفة : لا يجاوز به أقل الحدود وهو أربعون حد العبد بل ينقص منه سوط وللشافعي في ذلك قولان لنا إجماع الصحابة فإن معن بن زائدة زور كتابا على عمر رضي الله عنه ونقش خاتما مثل خاتمه فجلد مائة فشفع فيه قوم فقال أذكروني الطعن وكنت ناسيا فجلده مائة أخرى ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ولم يخالفه أحد فكان ذلك إجماعا ؛ ولأن الأصل مساواة العقوبات للجنايات احتجوا بما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تجلدوا فوق عشر في غير حدود الله تعالى } والجواب أنه خلاف مذهبهم فإنهم يزيدون على عشر أو ؛ لأنه محمول على طباع السلف رضي الله عنهم كما قال الحسن إنكم لتأتون أمورا هي في أعينكم أدق من الشعر إن كنا لنعدها [ ص: 179 ] من الموبقات فكان يكفيهم قليل التعزير ثم تتابع الناس في المعاصي حتى زوروا خاتم عمر رضي الله عنه وهو معنى قول عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور ، ولم يرد رضي الله عنه نسخ حكم بل المجتهد فيه ينتقل له الاجتهاد لاختلاف الأسباب .

( وثانيها ) من الفروق أن الحدود واجبة النفوذ والإقامة على الأئمة ، واختلفوا في التعزير وقال مالك وأبو حنيفة إن كان لحق الله تعالى وجب كالمحدود إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب مصلحة من الملامة والكلام وقال الشافعي هو غير واجب على الإمام إن شاء أقامه ، وإن شاء تركه احتج الشافعي رضي الله عنه بما في الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزر الأنصاري الذي قال له في حق الزبير في أمر السقي : أن كان ابن عمتك } يعني فسامحته ؛ ولأنه غير مقدر فلا يجب كضرب الأب والمعلم والزوج . والجواب عن الأول أنه حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز له تركه بخلاف حق الله تعالى لا يجوز له تركه كقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } فإذا قسط فتجب إقامته ، وعن الثاني أن غير المقدر قد يجب كنفقات الزوجات والأقارب ، ونصيب الإنسان في بيت المال غير مقدر وهو واجب ؛ ولأن تلك الكلمات كانت تصدر لجفاء الأعراب لا لقصد السب .

( وثالث الفروق ) أن التعزير على وفق الأصل من جهة اختلافه باختلاف الجنايات وهو الأصل بدليل الزنا مائة وحد القذف ثمانون والسرقة القطع [ ص: 180 ] والحرابة القتل وقد خولفت القاعدة في الحدود دون التعازير فسوى الشرع بين سرقة دينار وسرقة ألف دينار وشارب قطرة من الخمر وشارب جرة في الحد مع اختلاف مفاسدها حدا ، وعقوبة الحر والعبد سواء مع أن حرمة الحر أعظم لجلالة مقداره بدليل رجم المحصن دون البكر لعظم مقداره مع أن العبيد إنما ساوت الأحرار في السرقة والحرابة لتعذر التجزئة بخلاف الجلد واستوى الجرح اللطيف الساري للنفس والعظيم في القصاص مع تفاوتهما ، وقتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل مع الوضيع .

( الرابع ) من الفروق أن التعزير تأديب يتبع المفاسد ، وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين استصلاحا لهم مع عدم المعصية وجاء في هذا الفرق فرع وهو أن الحنفي إذا شرب النبيذ ، ولم يسكر قال مالك أحده ولا أقبل شهادته ؛ لأن تقليده في هذه المسألة لأبي حنيفة لا يصح لمنافاتها للقياس الجلي على الخمر ومخالفة النصوص الصحيحة { ما أسكر كثيره فقليله حرام } وقال الشافعي رضي الله عنه أحده ، وأقبل شهادته أما حده فللمفسدة الحاصلة من التوسل لإفساد العقل ، وأما قبول شهادته فإنه لم يعص بناء على صحة التقليد عنده ، قال : والعقوبات تتبع المفاسد لا المعاصي فلا تنافي بين عقوبته وقبول شهادته ويبطل عليه قوله من جهة أن هذا إنما هو في التعازير أما الحدود المقدرة فلم توجد في الشرع إلا في معصية عملا بالاستقراء ، فالحق مع مالك رحمه الله تعالى [ ص: 181 ]

( الخامس ) من الفروق أن التعزير قد يسقط ، وإن قلنا بوجوبه قال إمام الحرمين إذا كان الجاني من الصبيان أو المكلفين قد جنى جناية حقيرة والعقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيه ردعا ، والعظيمة التي تؤثر فيه لا تصلح لهذه الجناية سقط تأديبه مطلقا أما العظيمة فلعدم موجبها ، وأما الحقيرة فلعدم تأثيرها ، وهو بحث حسن ما ينبغي أن يخالف فيه .

( السادس ) من الفروق أن التعزير يسقط بالتوبة ما علمت في ذلك خلافا ، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } . ( سؤال ) مفسدة الكفر أعظم المفاسد والحرابة أعظم مفسدة من الزنا وهاتان المفسدتان العظيمتان تسقطان بالتوبة والمؤثر في سقوط الأعلى أولى أن يؤثر في سقوط الأدنى ، وهو سؤال قوي يقوي قول من يقول بسقوط الحدود بالتوبة قياسا على هذا المجمع عليه بطريق الأولى .

وجوابه من وجوه : ( أحدها ) أن سقوط القتل في الكفر يرغب في الإسلام فإن قلت : إنه يبعث على الردة قلت الردة قليلة فاعتبر جنس الكفر وغالبه . ( وثانيها ) أن الكفر يقع للشبهات فيكون فيه عذر عادي ، ولا يؤثر أحد أن يكفر لهواه قلنا ، ولا يزني أحد إلا لهواه فناسب التغليظ . ( وثالثها ) أن الكفر لا يتكرر غالبا وجنايات الحدود تكرر غالبا فلو أسقطناها بالتوبة ذهبت مع تكررها مجانا وتجرأ عليها الناس في اتباع أهويتهم أكثر ، وأما الحرابة فلأنا لا نسقطها إلا إذا لم نتحقق [ ص: 182 ] المفسدة بالقتل أو أخذ المال أما متى قتل قتل إلا أن يعفو الأولياء عن الدم ، وإذا أخذ المال وجب الغرم وسقط الحد ؛ لأنه حد فيه تخيير بخلاف غيره فإنه محتم والمحتم آكد من المخير فيه .

( السابع ) أن التخيير يدخل في التعازير مطلقا ولا يدخل في الحدود إلا في الحرابة إلا في ثلاثة أنواع فقط .

( تنبيه ) التخيير في الشريعة لفظ مشترك بين أشياء أحدها : الإباحة المطلقة كالتخيير بين أكل الطيبات وتركها . وثانيها : الواجب المطلق كتصرفات الولاة فمتى قلنا الإمام مخير في صرف مال بيت المال أو في أسارى العدو أو المحاربين أو التعزير فمعناه أن ما تعين سببه ومصلحته وجب عليه فعله ويأثم بتركه فهو أبدا ينتقل من واجب إلى واجب كما ينتقل المكفر في كفارة الحنث من واجب إلى واجب غير أن له ذلك يهواه في التكفير ، والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه لا أن هاهنا إباحة ألبتة ، ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له ، وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء هذا فسوق وخلاف الإجماع بل الصواب ما تقدم ذكره . وثالثها تخيير الساعي بين أخذ أربع حقاق أو خمس بنات لبون في صدقة الإبل فإن الإمام هاهنا يتخير كما يتخير المكفر في كفارة الحنث غير أن الفرق بينهما أن هذا تخيير أدت إليه الأحكام وفي الحنث تخيير متأصل فتأمل هذه التخييرات .

( الثامن ) أنه يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه ، والجناية والحدود لا تختلف باختلاف فاعلها فلا بد في التعزير من اعتبار مقدار [ ص: 183 ] الجناية والجاني والمجني عليه .

( التاسع ) أن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار فرب تعزير في بلاد يكون إكراما في بلد آخر كقلع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلس ليس هوانا وبالعراق ، ومصر هوان . ( العاشر ) أنه يتنوع لحق الله تعالى الصرف كالجناية على الصحابة أو الكتاب العزيز ونحو ذلك ، وإلى حق العبد الصرف كشتم زيد ونحوه ، والحدود لا يتنوع منها حد بل الكل حق لله تعالى إلا القذف على خلاف فيه إما أنه تارة يكون حدا حقا لله تعالى وتارة يكون حقا لآدمي فلا يوجد ألبتة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق السادس والأربعون والمائتان بين قاعدة الحدود وقاعدة التعازير من وجوه ) قلت جميع ما قاله في هذا الفرق صحيح لكنه أغفل من الأجوبة عن قوله صلى الله عليه وسلم { لا تجلدوا فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله } أصحها ، وأقواها وهو أن لفظ الحدود في لفظ الشرع ليس مقصورا على الزنا وشبهه بل لفظ الحدود في عرف الشرع متناول لكل مأمور به ومنهي عنه فالتعليق على هذا من جملة حدود الله تعالى فإن قيل الحديث يقتضي مفهومه أنه [ ص: 178 ] يجلد عشر جلدات فما دونها في غير الحدود فما المراد بذلك فالجواب أن المراد به جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم ، والله تعالى أعلم . وأغفل أيضا التنبيه على ضعف قول إمام الحرمين أن الجناية الحقيرة تسقط عقوبتها وبيان ضعف ذلك القول بل بطلانه أن قوله العقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيها ردعا ، قول متناف من جهة أنه لا معنى لكون العقوبة صالحة للجناية إلا أنها تؤثر فيها العادة الجارية ردعا فإن كانت بحيث لا تؤثر ردعا فليست بصالحة لها هذا أمر لا خفاء به ، ولا إشكال ، والله تعالى أعلم ، وجميع ما قاله في الفروق الثلاثة بعده صحيح أو نقل وترجيح . [ ص: 179 - 192 ]



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والأربعون والمائتان بين قاعدتي الحدود والتعازير ) . وهو من عشرة وجوه . ( الوجه الأول ) أن الحد مقدر شرعا والتعزير غير مقدر شرعا بل قد اتفقوا على عدم تحديد أقله واختلفوا في تحديد أكثره فعندنا هو غير محدود بل بحسب الجناية والجاني والمجني عليه وفي تبصرة ابن فرحون قال المازري في بعض الفتاوى ، وأما تحديد العقوبة فلا سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب وقال في المعلم ، ومذهب مالك رحمه الله تعالى أنه يجيز في العقوبات فوق الحد وقال فيه أيضا ، ومشهور المذهب أنه يزاد على الحدود وقد أمر مالك بضرب رجل وجد مع صبي قد جرده وضمه إلى صدره [ ص: 205 ] فضربه أربعمائة فانتفخ ، ومات ، ولم يستعظم مالك ذلك . ا هـ المراد ، قال الأصل لنا وجهان .

( الأول ) إجماع الصحابة فإن معن بن زائدة زور كتابا على عمر رضي الله عنه ونقش خاتما مثل نقش خاتمه فجلده مائة فشفع فيه قوم فقال أذكرتموني الطعن وكنت ناسيا فجلده مائة أخرى ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ، ولم يخالفه أحد فكان ذلك إجماعا وفي التبصرة قال المازري وضرب عمر رضي الله عنه صبيغا أكثر من الحد أي ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وإلا لورد . ( الثاني ) أن الأصل مساواة العقوبات للجنايات ، قال الأصل وقال أبو حنيفة لا يجاوز به أي بالتعزير أقل الحدود وهو أربعون حد العبد بل ينقص منه سوط وللشافعي في ذلك قولان وفي التبصرة وبقول أبي حنيفة قال الشافعي وقال أيضا لا يبلغ عشرين وفيها أيضا ، ولم يزد أحمد بن حنبل في العقوبات على العشرة قال الأصل واحتجوا بما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تجلدوا فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله } .

وأجاب أصحابنا عنه بأجوبة منها قال ابن الشاط ، وأغفله الشهاب وهو أصحها ، وأقواها : إن لفظ الحدود في لفظ الشرع ليس مقصورا على الزنا وشبهه بل لفظ الحدود في عرف الشرع متناول لكل مأمور به ، ومنهي عنه فالتعليق على هذا من جملة حدود الله تعالى والمراد بغير حدود الله في الحديث جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم فافهم . ا هـ . وعبارة المعلم كما في التبصرة وتأول أصحابنا الحديث على أن المراد بقوله في غير حد إلخ أي في غير حق من حقوق الله تعالى ، وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها ؛ لأن المعاصي كلها من حدود الله تعالى ا هـ ، ومنها أن الحديث مقصور على زمنه عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان يكفي الجاني منه هذا القدر كما في المعلم قال الأصل أي هو محمول على طباع السلف رضي الله عنهم كما قال الحسن إنكم لتأتون أمورا هي في أعينكم أدق من الشعر ، وإن كنا لنعدها من الموبقات فكان يكفيهم قليل التعزير ثم تتابع الناس في المعاصي حتى زوروا خاتم عمر رضي الله عنه وهو معنى قول عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور ، ولم يرد رضي الله عنه نسخ حكم بل المجتهد فيه ينتقل له الاجتهاد لاختلاف الأسباب .

( ومنها ) أنه لا يوافق ظاهر الحديث إلا مذهب أحمد بن حنبل وأما الأحناف والشافعية فإنهم يزيدون على العشر فظاهر الحديث خلاف مذهبهم . ( والوجه الثاني ) من الفروق أن الحدود واجبة النفوذ والإقامة على الأئمة واختلفوا في التعزير فقال مالك وأبو حنيفة - رحمهما الله تعالى - إن كان لحق الله تعالى وجب كالحدود إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة والكلام مصلحة أي وإن كان لحق آدمي لم يجب وفي تبصرة ابن فرحون فإن تجرد التعزير عن حق آدمي وانفرد به حق السلطنة كان لولي الأمر مراعاة حكم الأصلح في العفو والتعزير وله التشفيع فيه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { اشفعوا إلي ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء } قال فلو تعافى الخصمان عن الذنب قبل الترافع إلى ولي الأمر سقط حق الآدمي وفي حق السلطنة والتقويم والأدب وجهان أظهرهما عدم السقوط فله مراعاة الأصلح من الأمرين والأصح أنه لا يسقط التعزير بإسقاط ما وجب بسببه ، ولو نص على العفو والإسقاط .

ويسقط بإسقاطه ضمنا كما إذا عفا مستحق الحد عن الحد قبل بلوغ الإمام إذ ليس للإمام التعزير والحالة هذه لاندراجه في الحد الساقط وقيل لا يسقط إذ وجوب التعزير المقترن بالحد لمجرد حق السلطنة فلا ينبغي سقوطه بإسقاط الحد من الأحكام السلطانية قال فلو كان الخصمان المترافعان والدا وولدا فلا حق للولد في تعزير والده نعم يختص [ ص: 206 ] تعزيره لحق السلطنة فلولي الأمر فعل أحد الأمرين وتعزير الولد مشترك بين حقي الوالد والسلطنة . ا هـ بلفظه . وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو غير واجب على الإمام إن شاء أقامه وإن شاء تركه أي مطلقا محتجا بوجهين . ( الأول ) ما في الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزر الأنصاري الذي قاله في حق الزبير في أمر السقي أن كان ابن عمتك } يعني فسامحته وجوابه أنه حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز له تركه بخلاف حق الله تعالى لا يجوز له تركه كقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } فإذا قسط فتجب إقامته على أن تلك الكلمات كانت تصدر لجفاء الأعراب لا لقصد السب .

( والثاني ) أنه غير مقدر فلا يجب كضرب الأب والمعلم والزوج وجوابه أن غير المقدر قد يجب كنفقات الزوجات والأقارب ونصيب الإنسان في بيت المال غير مقدر وهو واجب . ( الوجه الثالث ) من الفروق أن الحدود ، وإن جرت على الأصل والقاعدة من اختلاف العقوبات باختلاف الجنايات من جهة أن الشارع جعل حد الزنا مائة وحد القذف ثمانين وحد السرقة القطع وحد الحرابة القتل إلا أنها جرت على خلاف الأصل المذكور في مسائل . ( منها ) أن الشرع سوى في الحد بين سرقة دينار وسرقة ألف دينار . ( ومنها ) أنه سوى في الحد بين شارب قطرة من الخمر وشارب جرة مع اختلاف مفاسدها حدا . ( ومنها ) أنه جعل عقوبة الحر والعبد سواء مع أن حرمة الحر أعظم لجلالة مقداره بدليل رجم المحصن دون البكر لعظم مقداره مع أن العبيد إنما ساوت الأحرار في السرقة والحرابة لتعذر التجزئة بخلاف الجلد . ( ومنها ) أنه سوى بين الجرح اللطيف الساري للنفس والعظيم في القصاص مع تفاوتهما . ( ومنها ) أنه سوى بين قتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل مع الوضيع .

وأما التعزير فهو على وفق الأصل المذكور أبدا فيختلف دائما باختلاف الجنايات قال ابن فرحون في التبصرة ، ولا يختص بفعل معين ، ولا قول معين ونذكر من ذلك بعض ما وردت به السنة فما قال ببعضه أصحابنا وبعضه خارج المذهب . ( فمنها ) { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزر الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم بالهجر فهجروا خمسين يوما لا يكلمهم أحد } وقصتهم مشهورة في الصحاح . ( ومنها ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب صبيغا الذي كان يسأل عن الذاريات وغيرها ويأمر الناس بالتفقه في المشكلات من القرآن ضربا وجيعا ونفاه إلى البصرة أو الكوفة ، وأمر بهجره فكان لا يكلمه أحد حتى تاب وكتب عامل البلد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه . ( ومنها ) { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزر بالنفي فأمر بإخراج المخنثين من المدينة ونفيهم } وكذلك الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم . ( ومنها ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلق رأس نصر بن الحجاج ونفاه من المدينة لما تشبب النساء به في الأشعار وخشى الفتنة بها . ( ومنها ) ما فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين . ( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم للمرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها } . ( ومنها ) أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استشار الصحابة في رجل ينكح كما تنكح المرأة فأشاروا بحرقه في النار فكتب أبو بكر رضي الله عنه بذلك إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته ثم حرقهم هشام بن عبد الملك وهو رأي ابن حبيب من أصحابنا ذكره في مختصر الواضحة . ( ومنها ) أن أبا بكر رضي الله عنه حرق جماعة من أهل الردة . ( ومنها ) { إباحته [ ص: 207 ] صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده } .

( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها } . ( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنه بتحريق الثوبين المعصفرين } . ( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم } فدل على جواز الأمرين ؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة . ( ومنها ) { هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار } . ( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة } . ( ومنها ) إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من التمر والكسر . ( ومنها ) إضعاف الغرم على كاتم الضالة . ( ومنها ) أخذه شطر مال مانع الزكاة غرمة من غرامات الرب تبارك وتعالى . ( ومنها ) أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه فطرحه فلم يعرض له أحد . ( ومنها ) { أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم } . ( ومنها ) تحريق عمر رضي الله عنه للمكان الذي يباع فيه الخمر . ( ومنها ) تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره ( ومنها ) مصادرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عماله بأخذ شطر أموالهم فقسمها بينهم وبين المسلمين .

( ومنها ) أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه ، وأخذ شيئا من بيت المال مائة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة . ( ومنها ) أن عمر رضي الله تعالى عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه ، وأطعمه إبل الصدقة . ( ومنها ) أنه رضي الله تعالى عنه أراق اللبن المغشوش ، وغير ذلك مما يكثر تعداده ، وهذه قضايا صحيحة معروفة قال ابن قيم الجوزية : وأكثر هذه المسائل شائعة في مذهب أحمد رضي الله تعالى عنه وبعضها شائع في مذهب مالك رضي الله تعالى عنه ، ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا ، وليس بمسلم دعواه نسخها كيف وفعل الخلفاء الراشدين ، وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل لدعوى نسخها والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع يصحح دعواهم إلا أن يقول أحدهم مذهب أصحابنا لا يجوز فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد ا هـ .

قال ابن فرحون والتعزير بالمال قال به المالكية ، ولهم فيه تفصيل ذكرت منه في كتاب الحسبة طرفا فمن ذلك مسائل . ( المسألة الأولى ) سئل مالك عن اللبن المغشوش أيهراق ؟ . قال لا ، ولكن أرى أن يتصدق به إذا كان هو الذي غشه وقال في الزعفران والمسك المغشوش مثل ذلك ، وسواء كان ذلك كثيرا أو قليلا وخالفه ابن القاسم في الكثير فقال يباع المسك والزعفران إلى من لا يغش به ويتصدق بالثمن أدبا للغاش . ( المسألة الثانية ) أفتى ابن القطان الأندلسي في الملاحم الرديئة النسج بأن تحرق ، وأفتى ابن عتاب بتقطيعها والصدقة بها خرقا .

( المسألة الثالثة ) إذا اشترى عامل القراض من يعتق على رب المال عالما بأنه قريبه فإنه إن كان موسرا عتق العبد وغرم العامل ثمنه وحصة رب المال من الربح إن كان في المال يوم الشراء ربح وولاؤه لرب المال وذلك لتعديه فيما فعل . ( المسألة الرابعة ) من وطئ أمة له من محارمه ممن لا يعتق عليه بالملك فإنه يعاقب وتباع عليه ، وإخراجها عن ملكه كرها من العقوبة بالمال . ( المسألة الخامسة ) الفاسق إذا آذى جاره ، ولم ينته تباع عليه الدار وهو عقوبة في المال والبدن . ( المسألة السادسة ) من مثل بأمته عتقت عليه وذلك عقوبة بالمال ا هـ .

( الوجه الرابع ) من الفروق [ ص: 208 ] أن الحدود المقدرة لم توجد في الشرع إلا في معصية عملا بالاستقراء بخلاف التعزير فإنه تأديب يتبع المفاسد وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين استصلاحا لهم مع عدم المعصية ، قال الأصل : ومن هنا يبطل على الشافعي قوله في الحنفي إذا شرب النبيذ ، ولم يسكر أحده وأقبل شهادته أما حده فللمفسدة الحاصلة من التوسل لإفساد العقل ، وأما قبول شهادته فلأنه لم يعص بناء على صحة التقليد عنده ، قال : والعقوبات تتبع المفاسد لا المعاصي فلا تنافي بين عقوبته وقبول شهادته . ا هـ . لما علمت من أن هذا إنما هو في التعاذير لا في الحدود ويكون الحق فيه قول مالك أحده ، ولا أقبل شهادته ؛ لأن تقليده في هذه المسألة لأبي حنيفة لا يصح لمنافاتها للقياس الجلي على الخمر ومخالفة النصوص الصحيحة ما أسكر كثيره فقليله حرام فافهم .

( الوجه الخامس ) من الفروق أن الحدود لا تسقط بحال بخلاف التعزير فإنه قد يسقط ، وإن قلنا بوجوبه قال إمام الحرمين : إذا كان الجاني من الصبيان والمكلفين قد جنى جناية حقيرة والعقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيه ردعا والعظيمة التي تؤثر فيه لا تصلح لهذه الجناية سقط تأديبه مطلقا أما العظيمة فلعدم موجبها ، وأما الحقيرة فلعدم تأثيرها . ا هـ . قال الأصل : وهو بحث حسن ما ينبغي أن يخالف فيه . ا هـ . وقال ابن الشاط وبيان ضعف قول إمام الحرمين أن الجناية الحقيرة تسقط عقوبتها ، بل بطلانه أن قوله العقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيه ردعا ، قول متناف من جهة أنه لا معنى لكون العقوبة صالحة للجناية إلا أنها تؤثر فيها العادة الجارية ردعا فإن كانت بحيث لا تؤثر ردعا فليست بصالحة لها هذا أمر لا خفاء به ، ولا إشكال ، والله تعالى أعلم ا هـ .

( الوجه السادس ) من الفروق أن التعزير يسقط بالتوبة قال الأصل : ما علمت في ذلك خلافا والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة والكفر فإنهما يسقط حدهما بالتوبة إجماعا لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ولقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا } الآية ، لا يقال قياس نحو الزنا من باقي المفاسد الموجبة للحد على هذا المجمع عليه بأن يقال مفسدة الكفر أعظم المفاسد والحرابة أعظم مفسدة من الزنا فإذا أثرت التوبة في سقوط هاتين المفسدتين العظيمتين فلأن تؤثر فيما دونهما من المفاسد بطريق الأولى إذ المؤثر في سقوط الأعلى أولى أن يؤثر في سقوط الأدنى يقوي قول من يقول بسقوط الحدود بالتوبة فكيف يكون مقابل الصحيح ؛ لأنا نقول القياس المذكور لا يصح أما بالنسبة للكفر فمن وجوه . ( أحدها ) أن سقوط القتال في الكفر يرغب في الإسلام وكونه يبعث على الردة مدفوع بأن الردة قليلة فاعتبر جنس الكفر وغالبه .

و ( ثانيها ) أن الكفر يقع للشبهات فيكون فيه عذر عادي ، ولا يؤثر أحد أن يكفر لهواه بخلاف نحو الزنا فإنه لا يزني أحد مثلا إلا لهواه فناسب التغليظ . ( وثالثها ) أن الكفر لا يتكرر غالبا وجنايات الحدود تتكرر غالبا فلو أسقطناها بالتوبة ذهبت مع تكررها مجانا وتجرأ عليها الناس في اتباع أهويتهم أكثر ، وأما بالنسبة للحرابة فلأنا لا نسقطها بالتوبة إلا إذا لم تتحقق المفسدة بالقتل أو أخذ المال أما متى قتل قتل إلا أن يعفو الأولياء عن الدم ، وإذا أخذ المال وجب الغرم وسقط الحد ؛ لأنه حد فيه تخيير بخلاف غيره [ ص: 209 ] فإنه محتم ، والمحتم آكد من المخير فيه .

( الوجه السابع ) من الفروق أن التخيير يدخل في التعاذير مطلقا ، ولا يدخل في الحدود إلا في الحرابة إلا في ثلاثة أنواع منها فقط وتلك الثلاثة . ( أحدها ) ما في قول أقرب المسالك وتعين قتله إن قتل . ( وثانيها ) ما في تبصرة ابن فرحون إن طال أمره ، وأخذ المال ، ولم يقتل بحد فقد قال مالك وابن القاسم في الموازية يقتل ، ولا يختار الإمام فيه غير القتل . ا هـ ( وثالثها ) ما في التبصرة عن الباجي قال أشهب في الذي أخذ بحضرة ذلك ، ولم يقتل ولم يأخذ المال هذا الذي قال فيه مالك لو أخذ فيه بأيسر ذلك قال عنه ابن القاسم أحب إلي أن يجلد وينفى ويحبس حيث نفي إليه . ا هـ بلفظه . والمراد بالتخيير هاهنا الواجب المطلق بمعنى الانتقال من واجب إلى واجب بشرط الاجتهاد المؤدي إلى ما يتحتم في حق الإمام مما أدت إليه المصلحة لا التخيير بمعنى الإباحة المطلقة إذ لا إباحة هاهنا ألبتة ، ولا التخيير بمعنى الانتقال من واجب إلى واجب بهواه وإرادته كيف خطر له وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء فإن هذا هاهنا فسوق وخلاف الإجماع وذلك أن التخيير في الشريعة لفظ مشترك بين شيئين . ( أحدهما ) الإباحة المطلقة كالتخيير بين أكل الطيبات وتركها . ( وثانيهما ) الواجب المطلق وتحته نوعان . ( الأول ) انتقال من واجب إلى واجب بشرط الاجتهاد ليؤدي إلى ما تعين سببه وأدت المصلحة إليه فيجب عليه فعله ويأثم بتركه كتصرفات الولاة فمتى قلنا الإمام مخير في صرف مال بيت المال أو في أسارى العدو أو المحاربين أو في التعزير كان معناه ما تقدم ذكره ( والنوع الثاني ) انتقال من واجب إلى واجب بهواه وإرادته كيف خطر له وله أن يعرض عما شاء ويقبل ما شاء من تلك الواجبات ، وهذا نوعان أيضا . ( الأول ) تخير متأصل بمعنى انتقال من واجب إلى واجب بهواه أصالة لا عروضا كما في تخيير المكفر في كفارة الحنث بين أنواعها الواجبة بهواه والثاني تخيير جر إليه الحكم بمعنى انتقال من واجب إلى واجب بهواه لا أصالة بل عروضا بحسب ما جر إليه الحكم كما في تخيير الساعي بين أخذ أربع حقاق أو خمس بنات لبون في صدقة الإبل فإن الإمام هاهنا يتخير كما يتخير المكفر في كفارة الحنث إلا أن هذا تخيير أدت إليه الأحكام وفي الحنث تخيير متأصل فتأمل هذه التخييرات واحتفظ عليها بهذا التفصيل .

( الوجه الثامن ) من الفروق أن التعزير يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه والجناية ففي تبصرة ابن فرحون قال ابن قيم الجوزية : اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد بحسب الجناية في العظم والصغر وبحسب الجاني في الشر وعدمه . ا هـ . أي وبحسب المجني عليه في الشرف وعدمه وفيها أيضا بعد ، أن التعاذير تختلف بحسب اختلاف الذنوب ، وما يعلم من حال المعاقب من جلده وصبره على يسيرها أو ضعفه عن ذلك وانزجاره إذا عوقب بأقلها . ا هـ . والحدود لا تختلف باختلاف فاعلها .

( الوجه التاسع ) من الفروق أن الحدود لا تختلف باختلاف الأعصار والأمصار فرب تعزير في عصر يكون إكراما في عصر آخر ورب تعزير في بلاد يكون إكراما في بلد آخر كقلع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وككشف الرأس عند الأندلس ليس هوانا وبالعراق ومصر هوان . ( الوجه العاشر ) من الفروق أن التعزير يتنوع إلى حق الله تعالى الصرف كالجناية على الصحابة أو الكتاب العزيز [ ص: 210 ] ونحو ذلك ، وإلى حق العبد الصرف كشتم زيد ونحوه ، والحدود لا يتنوع منها حد بل الكل حق الله تعالى إلا القذف على خلاف فيه قد تقدم أما أنه تارة يكون حقا لله تعالى وتارة يكون حقا لآدمي فلا يوجد ألبتة ، هذا تهذيب ما في الأصل ، وصححه ابن الشاط مع زيادة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية