الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 392 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويحرم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة ، وقال أبو بكر إسحاق : لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء غير النكاح } ; ولأنه وطء حرم للأذى ، فاختص به الفرج كالوطء في الدبر ، والمذهب الأول لما روى عمر رضي الله عنه قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال : ما فوق الإزار } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما الحديث الأول فبعض حديث ، روى أنس رضي الله عنه : { أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيت ، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { ويسألونك عن المحيض } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح } رواه مسلم .

                                      وأما حديث عمر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه والبيهقي بمعناه ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : { كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشرها ، قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه } وعن ميمونة رضي الله عنها نحوه رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية : { كان يباشر نساءه فوق الإزار } يعني في الحيض ، والمراد بالمباشرة : هنا التقاء البشرتين على أي وجه كان .

                                      ( أما حكم المسألة ) ففي مباشرة الحائض بين السرة والركبة ثلاثة أوجه . أصحها عند جمهور الأصحاب : أنها حرام ، وهو المنصوص للشافعي رحمه الله في الأم والبويطي وأحكام القرآن ، قال صاحب الحاوي : وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة ، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات . واحتجوا له بقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } وبالحديث المذكور ; ولأن ذلك تحريم للفرج ، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى وأجاب القائلون بهذا عن حديث أنس المذكور : بأنه محمول على القبلة ولمس [ ص: 393 ] الوجه واليد ونحو ذلك مما هو معتاد في غالب الناس ، فإن غالبهم إذا لم يستمتعوا بالجماع استمتعوا بما ذكرناه لا بما تحت الإزار . والوجه الثاني : أنه ليس بحرام ، وهو قول أبي إسحاق المروزي حكاه صاحب الحاوي عن أبي علي بن خيران ، ورأيته أنا مقطوعا به في كتاب اللطيف لأبي الحسن بن خيران من أصحابنا ، وهو غير أبي علي بن خيران ، واختاره صاحب الحاوي في كتابه الإقناع والروياني في الحلية ، وهو الأقوى من حيث الدليل لحديث أنس رضي الله عنه فإنه صريح في الإباحة .

                                      وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب جمعا بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله ، وتأول هؤلاء الإزار في حديث عمر على أن المراد به الفرج بعينه ونقلوه عن اللغة ، وأنشدوا فيه شعرا ، وليست مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار تفسيرا للإزار في حديث عمر رضي الله عنه بل هي محمولة على الاستحباب كما سبق . والوجه الثالث : إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج لضعف شهوة أو شدة ورع جاز ، وإلا فلا ، حكاه صاحب الحاوي ومتابعوه عن أبي الفياض البصري ، وهو حسن ، ونقل أبو علي السنجي والقاضي حسين والمتولي في المسألة قولين بدل الوجهين الأولين . قال القاضي : الجديد التحريم والقديم الجواز ثم على قول من لا يحرمه هو مكروه ، وصرح به المتولي وغيره .

                                      هذا حكم الاستمتاع بما بين السرة والركبة . أما ما سواه فمباشرتها فيه حلال بإجماع المسلمين ، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع وابن الصباغ والعبدري وآخرون ، وأما ما حكاه صاحب الحاوي عن عبيدة السلماني الإمام التابعي - وهو بفتح العين وكسر الباء - من أنه لا يباشر شيء من بدنه شيئا من بدنها فلا أظنه يصح عنه ، ولو صح فهو شاذ مردود بالأحاديث الصحيحة المشهورة في مباشرته صلى الله عليه وسلم فوق الإزار ، وإذنه في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء إلا النكاح } وبإجماع من قبله ومن بعده والله أعلم .

                                      ثم لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به فوق الإزار شيء [ ص: 394 ] من دم الحيض أو لا ، وحكى المحاملي في التجريد وجماعة من المتأخرين وجها : أنه إن كان عليه شيء من دم الحيض حرم ; لأنه أذى ، وهذا الوجه شاذ وغلط ، والصواب الأول ، وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق لعموم الأحاديث ; ولأن الأصل الإباحة حتى يثبت دليل ظاهر في التحريم وقياسا على ما لو كان عليها نجاسة أخرى .

                                      وأما الاستمتاع بنفس السرة والركبة وما حاذاهما فلم أر فيه نصا لأصحابنا ، والمختار الجزم بجوازه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء إلا النكاح } ويحتمل أن يخرج على الخلاف في كونهما عورة ، إن قلنا عورة كانتا كما بينهما ، وإن قلنا - بالمذهب : إنهما ليستا عورة أبيحا قطعا كما وراءهما والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في المباشرة فيما بين السرة والركبة بغير وطء ، وقد ذكرنا الخلاف في مذهبنا ودلائله ، وممن قال بتحريمها أبو حنيفة ومالك ، وحكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب وطاوس وشريح وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة ، وحكاه البغوي عن أكثر أهل العلم ، وممن قال بالجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن وأحمد وأصبغ المالكي وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وداود ، ونقله عنهم العبدري وغيره ، وتقدم دليل الجميع والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا قلنا : تحرم المباشرة بين السرة والركبة ففعله متعمدا مختارا عالما بالتحريم أثم ولا كفارة عليه بلا خلاف ، صرح به الماوردي وغيره وهو ظاهر ، فإن إيجاب الكفارة على القديم إنما كان لذلك الحديث الضعيف وليس هنا حديث ولا هو في معناه ، فإن الوطء حرام بالإجماع ويكفر مستحله وهذا بخلافه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية