الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 408 ] ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) .

                          ذكر الله تعالى هؤلاء الناس في الآيتين السابقتين ببعض آياته في أنفسهم ، ومنته عليهم في وقائع أحوالهم التي يشعر بها كل من وقعت له منهم ، وكونه هو الذي ينجيهم من الظلمات والكروب والأهوال والخطوب ، إما بتسخير الأسباب ، وإما بدقائق اللطف والإلهام ، ثم قال :

                          ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) فهذا تذكير بقدرته على تعذيبهم إثر التذكير بقدرته على تنجيتهم ، لا فرق فيهما بين أفرادهم وبين مجموعهم وجملتهم ، وإنذار بأن عاقبة كفر النعم أن تزول وتحل محلها النقم . والمعنى : قل أيها الرسول لقومك ومن وراءهم من الكافرين بنعم الله ، الذين يشركون به سواه ، ولا يشكرون له ما من به من النعم وأسداه ، ومن الذين يتنكبون سنن الله ، ويختلفون في الكتاب بعد أن هداهم به الله : هو الله القادر على أن يثير ويرسل عليكم عذابا تجهلون كنهه فيصبه عليكم من فوقكم ، أو يثيره من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا ، مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم تشايع إماما في الدين ، أو تتعصب لملك أو رئيس ، ويذيق بعضكم بأس بعض وهو ما عنده من الشدة والمكروه في السلم والحرب . وقال صاحب الكشاف بعد تفسير اللبس بالخلط : ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال من قوله :


                          وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي

                          .

                          أقول : وأصل معنى اللبس التغطية ، كاللباس ، وهذا التفريق والاختلاف بين الشيع كالغطاء ، يستر عن كل شيعة ما عليه الأخرى من الحق ، وما في الاتفاق معها من المصلحة والخير ، [ ص: 409 ] ولمادة ( ش ي ع ) ثلاثة معان أصلية في اللغة ( أحدها ) الانتشار والتفرق ، ومنه شاع وأشاع الأخبار ، وطارت نفسه شعاعا . ( ثانيها ) الاتباع والدعوة إليه ، ومن الأول تشييع المسافر وتشييع الجنازة ، ومن الثاني قولهم : أشاع بالإبل ، أي دعاها إذا استأخر بعضها ليتبع بعضها بعضا . ( ثالثها ) التقوية والتهييج ، ومنه قولهم شيع النار إذا ألقى عليها حطبا يذكيها به ، والشياع - بالفتح والكسر - ما تضرم به النار ، وكل هذه المعاني ظاهرة في الشيع ، والأحزاب المتفرقة بالخلاف في الدين أو السياسة . وفسر ابن عباس الشيع بالأهواء المختلفة أي أصحابها .

                          وقد ورد في المأثور تفسير العذاب من فوق بالرجم من السماء ، أي : من جهة العلو - وكذا الطوفان - كما وقع لبعض الأمم القديمة . والعذاب من تحت الأرجل بالخسف والزلازل المعهودة في القديم والحديث ، وروي عن ابن عباس أن المراد بالفوق أئمة السوء - أي الحكام والرؤساء - وبالتحت خدم السوء ، وفي رواية ( من فوقكم ) يعني أمراءكم ( أو من تحت أرجلكم ) يعني عبيدكم وسفلتكم ، وهذا معنى صحيح في نفسه ، ولعل مراد الخبر منه أنه يدخل في عموم ما ترشد إليه الآية ، وقيل : المراد بالفوق حبس المطر ، وبالتحت منع الثمرات ، وهذا تفسير سلبي ، والتعبير عنه بالإرسال تعبير عن الشيء بضده ، فإن الإرسال ضد المنع والإمساك والحبس ، ومنه قوله تعالى : ( وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) ( 35 : 2 ) ولما كان لفظ العذاب في الآية نكرة جاز حمله على كل عذاب يأتي من فوق الرءوس ومن تحت الأرجل ، أو من رؤساء الناس أو من تحوتهم ، ولولا أن هذا الإبهام مراد لأجل هذا الشمول لصرح بالمراد كما صرح به في مثل قوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير 67 : 16 ، 17 ) وحكمة مثل هذا الإبهام في القرآن أن ينطبق معنى اللفظ على ما يدل عليه مما يحدث في المستقبل أو نكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم ، إذ ورد في وصف القرآن أنه لا تنتهي عجائبه ، وأن فيه نبأ من قبل الذين نزل في زمانهم ، ومن كان معهم ، ومن يجيء بعدهم .

                          مثال ما عبر القرآن عنه ولم ينكشف لجمهور الناس انكشافا تاما إلا بعد نزوله بقرون - كون الثمار وغيرها أزواجا ؛ منها الذكر والأنثى ، قال تعالى : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين 13 : 3 ) وقال : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) ( 51 : 49 ) وكانوا يحملون الآيات في ذلك على المجاز - وكون الرياح تلقح النبات كما هو صريح قوله تعالى : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) ( 15 : 22 ) وقد جعله بعض مفسري السلف تلقيحا مجازيا كقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : إنها تلقح السحاب فيدر كما تدر اللقحة . نعم قال ابن عباس [ ص: 410 ] - رضي الله عنه - وكذا الحسن : تلقح الشجر وتمري السحاب . ولكن هذا القول المقتبس من التنزيل بنور الفهم الصحيح لم يزل خفيا في تفصيله حتى عن العرب الذين كانوا يلقحون النخيل - إلى أن اكتشف الناس أعضاء الذكورة والأنوثة في النبات وكونها تثمر بالتلقيح ، وكون الرياح تنقل مادة الذكورة من ذكرها إلى أنثاها فتلقحها به ، ولما علم الإفرنج بهذا قال بعض المطلعين على القرآن المجيد من المستشرقين منهم : إن أصحاب الإبل - يعني العرب - قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعرفها أهل أوربة بثلاثة عشر قرنا .

                          ومثال ما عبر القرآن عنه مما شمل ما لم يكن في زمن تنزيله ولا فيما قبله بحسب ما يعلم البشر - هذه الآية التي ظهر تفسيرها في هذا الزمان بهذه الحرب الأوربية التي لم يسبق لها نظير ؛ فقد أرسل الله على الأمم عذابا من فوقها بما تقذفه الطيارات والمناطيد من المقذوفات النارية والسموم البخارية والغازية التي لم تعرف قبل هذه الحرب فوق مقذوفات المدافع وغيرها مما كان معروفا قبلها ، ولكن بعد تنزيل الآية - وعذابا من تحتها بما يتفجر من الألغام النارية ، وبما ترسله المراكب الغواصة في البحر التي اخترعت في هذا العصر ، ولبسها شيعا متعادية ، وأذاق بعضها بأس بعض ، فحل بها من التقتيل والتخريب ما لم يعهد له نظير في الأرض . وقد شرحنا هذا في مقالة نشرناها في المنار . ولا شك في أن دلالة الآية على هذه المخترعات مراد ; لأن الله تعالى منزل القرآن هو علام الغيوب . وفي الحديث المرفوع ما يشير إلى ذلك ؛ فقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ( قل هو القادر ) إلى آخرها ، فقال : " أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد " ويقويه ما ورد في تطبيقها على أمتنا ; لأنه سنة الله في أهل الكتاب قبلنا كما يأتي قريبا .

                          ( انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) أي انظر بعين عقلك أيها الرسول - ومثله في هذا كل مخاطب بالقرآن - كيف نصرف الآيات والدلائل فنجعلها على أنحاء شتى ، منها ما طريقه الحس ، ومنها ما طريقه العقل ، ومنها ما طريقه علم الغيب - لعلهم يفقهون الحق ، ويدركون كنه الأمر ، فإن الفقه هو فهم الشيء بدليله وعلته ، المفضي إلى الاعتبار والعمل به ، وإنما يرجى تحصيله بتصرف الآيات وتنويع البينات .

                          فعلم مما تقدم أن هذه الآية عامة وإن نزلت في سياق إنذار مشركي مكة وإقامة الحجة عليهم ، فالعبرة فيها كغيرها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أو مقتضى السياق ، كما تقرر في الأصول ، وقد جهل هذا بعض المعممين فأنكروا علينا منذ أول العهد بإنشاء ( المنار ) [ ص: 411 ] ما كنا نورده في سياق تذكير المسلمين من الآيات التي نزلت في المشركين والمنافقين . ومما يؤيد مسلكنا هذا ما رواه البخاري والنسائي في تفسير هذه الآية من حديث جابر قال : لما نزلت هذه الآية ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك " قال : ( أو من تحت أرجلكم ) قال : " أعوذ بوجهك " ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا أهون أو هذا أيسر " هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ، ووقع في كتاب الاعتصام منه " هاتان أهون أو أيسر " - والشك من الراوي - وإنما كانت خصلتا اللبس وإذاقة البأس أهون أو أيسر ; لأن المستعاذ منه قبلها هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين بألا يبقى من الأمة أحد ، ويدل على ذلك أحاديث متعددة ؛ منها حديث ابن عباس عند أبي بكر بن مردويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع عنهم الخسف والرجم ، وأبى أن يرفع الأخريين " وفي رواية أخرى عنده عنه - أي ابن عباس - قال : لما نزلت هذه الآية ( قل هو القادر . . . ) قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثم قال : " اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض " قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد قد أجار الله أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم . أي : ولم يجرهم من العذابين الآخرين ؛ لأنه لا بد أن يتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب ، ويحل ما حل بهم من عذاب التفرق والخلاف ، وذلك مقتضى سنته تعالى في عقاب أتباع الرسل ، يختلفون في الدين الجامع لكلمتهم فيكونون مذاهب وشيعا ، ويتبع ذلك اختلافهم في السلطة والسياسة أو يتقدمه ، ويترتب عليه التخاصم والاقتتال الذي نعهده ، وهذا معنى قضاء الله في حديث ثوبان الذي يأتي قريبا .

                          وروى أبو الشيخ عن مجاهد في تفسير الآية أن هذا العذاب عذاب أهل الإقرار ، وأن العذاب الأول عذاب أهل التكذيب . وأوضح منه ما رواه ابن جرير ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ) قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ، فسأل ربه ألا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل . فهبط إليه جبريل فقال : يا محمد ، إنك سألت ربك أربعا ، فأعطاك اثنتين ، ومنعك اثنتين : لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم ، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ، ولكنه يلبسهم شيعا ، ويذيق بعضهم بأس بعض ، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب [ ص: 412 ] والتصديق بالأنبياء ، ولكن يعذبون بذنوبهم . وأوحى الله إليه ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ) ( 43 : 41 ) يقول من أمتك ( أو نرينك الذي وعدناهم ( 42 ) من العذاب وأنت حي ( فإنا عليهم مقتدرون ) ( 42 ) فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فراجع ربه ، فقال : " أي مصيبة أشد من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضا ؟ " وأوحي إليه ( الم أحسب الناس أن يتركوا ) ( 29 : 1 ، 2 ) الآيتين فأعلمه أن أمته لم تخص دون الأمم بالفتن ، وأنها ستبتلى كما ابتليت الأمم ، ثم أنزل عليه ( قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني مع القوم الظالمين ) ( 23 : 93 ، 94 ) فتعوذ نبي الله فأعاذه الله ، لم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة ، ثم أنزل عليه آية حذر فيها أصحاب الفتنة ، فأخبره أنه إنما يخص بها ناسا منهم دون ناس ، فقال : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ( 8 : 25 ) فخص بها أقواما من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بعده وعصم بها أقواما . اهـ .

                          وقد وفى الحسن - رحمه الله - المسألة حقها من البيان بذكر ما يتعلق بها ، وإن نزل بعدها بسنين كآية الأنفال الأخيرة ، ولكنه لم يبين معنى هذه ، وهو بيان سنته تعالى في الفتن ، تصاب بها الأمم لا تصيب الذين ظلموا منهم ، وكانوا سبب العذاب المترتب عليها خاصة ، بل تحل بهم وبمن لم يمنعهم عن الظلم ولو عجزا ، بل ظاهر الرواية مخالف لظاهر الآية في هذا ، ولعله محرف .

                          واعلم أنه ورد في هذا المعنى أحاديث أخرى ؛ منها أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه ألا يهلك أمته بتسليط عدو عليهم من غير أنفسهم ، ولا بالسنة العامة - أي المجاعة والقحط - ولا بالغرق ، ولا بما عذب به الأمم قبلهم كالريح والصيحة والرجفة . وقد أورد هذه الأحاديث الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية ، والسيوطي في الدر المنثور .

                          وقد استشكل هذه الأحاديث العلماء بما ورد من الأحاديث المتعددة من الطرق المختلفة في إثبات وقوع الخسف والمسخ والقذف في هذه الأمة ، وأمثل ما أجابوا به عنها هو أن ما دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عدم هلاك أمته كلها بما ذكر كما هلكت عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ، ووقوع شيء من ذلك في بعض الأمة لا ينافي استجابة الدعاء ، فإن منه الموت غرقا أو جوعا ، وقد وقع لكثير من الأمة حتما .

                          ثم حدث لهذه الأمة في الأجيال الأخيرة ما هو أولى بالإشكال ، وأحوج إلى مثل هذا الجواب ، وهو تسليط الأعداء عليها المعارض لما ورد في هذا الباب وأصحه ما رواه مسلم ، من حديث ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت [ ص: 413 ] مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة ، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال : من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا " ورواه أحمد وأصحاب السنن - إلا النسائي - وغيرهم بزيادة عما هنا ، وقد ظهر صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها ، وفي وقوع بأسهم بينهم ، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ، ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم ، وكم تألبت عليهم الأمم ، فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا ، وما بقي لهم الآن قليل ضعيف ، يتوقع الطامعون الاستيلاء عليه قريبا ، ونحن نرجو خذلان الطامعين ، وإقامة قواعد استقلالنا على أساس متين ، يضمنه تكافل الأمم وحفظها للسلم ولو عشرات من السنين ، لعلنا نصير في فرصتها من العالمين العاملين ، الذين يحفظون حقيقتهم بأنفسهم ، ولا يتكلون على تنازع الطامعين فيهم ، فإن هذا اتكال على أمر سلبي لا يدوم لنا ، وإن كان هو الذي أبقى لنا هذا القليل الذي ذكرنا ، وبقاؤه هو مصداق الحديث على الطريقة المعتمدة في الجواب عن الدعاء برفع الخسف والقحط والغرق وغيرها في الأحاديث الأخرى .

                          ويمكن أن يجاب عن حديث ثوبان هذا بجواب آخر غير الذي يؤخذ من جوابهم عن غيره وغير ما أشرنا إليه آنفا في بيان صدقه ، وهو أن الله تعالى لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بعروة الإيمان الوثقى ، وقائمين بحقوقه ومنها الأسباب التي وعدهم الله تعالى النصر ما داموا مستمسكين بها ، وقد بينها لهم في كتابه ، وتقدم كثير منها فيما مر من التفسير ، ويؤيد ذلك حديث آخر عن ثوبان نفسه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : أومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن . قال قائل : يا رسول [ ص: 414 ] الله ، وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت " رواه أبو داود في سننه ، والبيهقي في دلائل النبوة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية