الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )

                          قلنا : إن السياق قد انتقل من الكلام في بني إسرائيل تجاه القرآن ودعوة الإسلام ورسوله إلى الكلام في شئون المؤمنين معهم ومع النصارى والوثنيين ، وشيخنا لا يزال يجعل السياق واحدا غير ملتفت في التناسب بين الآيات إلى هذا التفصيل لذلك المجمل ، وقد قال هنا ما مثاله : الكلام لا يزال في القرآن ، وما كان من أمر الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ، وذكر في الآيات المتقدمة آنفا من شأن أهل الكتاب ، ما تبين به أن عدم إيمانهم بالنبي وما جاء به غير قادح فيه ، ولا ينهض شبهة عليه ، وأن مطاعنهم فيه متهافتة منقوضة بطعنهم في أنفسهم ، وتخبطهم في أمر كتبهم ، ثم انتقل إلى ذكر شبهة مشركي العرب ، وبين أنهم جروا فيها على الأصل المعهود من أمثالهم المشركين الذين سبقوهم بالضلال فقال : ( وقال الذين لا يعلمون ) أي الجاهلون بالكتاب والشرائع من مشركي العرب . وقال ( الجلال ) : إن المراد بالذين لا يعلمون كفار مكة خاصة ولا دليل على التخصيص ، ويرجح العموم كون الآية مدنية ( لولا يكلمنا الله ) كما [ ص: 363 ] كلم هذا الرسول مع أنه بشر مثلنا ( أو تأتينا آية ) من الآيات التي اقترحناها . يعنون ما حكاه الله - تعالى - عنهم بمثل قوله : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) ( 17 : 90 ) الآيات ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) أي مثل هذا القول قال الكفار الذين أرسل الله إليهم الرسل من قبلهم في معناه ، وهو أنهم أنكروا على الرسل الاختصاص بالوحي من دونهم واقترحوا عليهم الآيات تعنتا وعنادا ( تشابهت قلوبهم ) لأن الطغيان قد ساوى بينهم حتى كأنهم تواصوا بما يقولون كما قال في سورة الذاريات : ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) ( 51 : 53 ) ويشبه هذا ما ورد من أن الكفر ملة واحدة وذلك أن الحق واحد ، ومخالفته هي الباطل أو الضلال ، وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه ؛ وآثار الشيء الواحد الكلي تتشابه فيمن تصدر عنهم وإن اختلفت الجزئيات ، والتشابه هنا إنما هو في مكابرة الحق واستبعاد كون واحد من البشر رسولا يوحى إليه واقتراح الآيات تعنتا وعنادا .

                          ومثال الاختلاف في الجزئيات طلب قوم موسى رؤية الله جهرة ، وطلب قوم محمد أن يرقى في السماء أمامهم فيأتيهم بكتاب يقرءونه ، والطلب الذي مصدره العناد والتعنت لا تقيد إجابته ؛ لأن صاحبه لا يقصد به معرفة الحق ، ولذلك قال تعالى: ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) ( 6 : 7 ) والدليل المعقول على هذا أنه ما من نبي إلا وقد جاء بآية أو آيات كونية أو عقلية ، وكانوا مع ذلك يصفونهم بالسحر ثم يقترحون عليهم الآيات ؛ ولذلك قال - تعالى - بعد حكاية شبهة هؤلاء الجاهلين : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) أي أننا لم ندعك يا محمد بغير آية بل بينا الآيات على يديك بيانا لا يدع للريب طريقا إلى نفس من يعقلها . وقد قال : ( بينا الآيات ) ولم يقل : أعطيناك الآيات للتفرقة والفصل بين آيات القرآن التي هي من علم الله وكلامه ، يظهر بها الحق بطريق معقول بين لا يشتبه فيه الفهم ، ولا يحار فيه الذهن ، وبين الآيات الكونية التي هي من صنعه يستخذي لها العقل ويخضع لها ؛ لشعوره بأنها من قوة فوق قوته . وللناس فيما يرونه فوق ما يعقلون طريقان معهودان : منهم من يسنده إلى القوة الغيبية العليا ، سواء كان له سبب خفي في الواقع أو لا ، ومنهم من يسنده إلى الأسباب الخفية التي يسمونها السحر ، وإن كان فوق قدرة البشر ؛ ولذلك ضلت الأمم في آيات الأنبياء السابقين وليس لأحد أن يضل في آيات القرآن لأنها بينة معقولة ولذلك قال : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ( 2 : 2 ) .

                          نعم إن الآيات العلمية لا يعقلها إلا أهل الاستعداد للعلم واليقين ؛ ولذلك قال : ( لقوم يوقنون ) . قال الأستاذ الإمام : الذين يوقنون هم الذين خلصت نفوسهم من كل رأي وتقليد ، وتوجهوا إلى طلب الحق في الأمور الاعتقادية ، وأخذوا على أنفسهم العهد أن يطلبوه بدليله وبرهانه ، فهم إذا قام عندهم البرهان اعتقدوا وأيقنوا إيقانا ، وإنما يتوقع اليقين من مثلهم [ ص: 364 ] لا من قوم يعتقدون الشيء أولا بلا دليل ولا برهان ، ثم يلتمسون له الدليل ؛ لأن مقلديهم قالوا بوجوب معرفة الدليل ، فإذا أصابوه موافقا لما اعتقدوا ، رضوا به وإن كان ظنيا ، وإذا نهض لهم مخالفا لتقاليدهم ، رفضوه وتعللوا بالتعلات المنتحلة ، وهؤلاء هم الجماهير من الناس الذين وصفوا في الأثر بأنهم أتباع كل ناعق ، والعبرة في خطاب الشرع بأهل اليقين الذين صفت نفوسهم ، ومحصت أفكارهم ، فسلموا من علة العناد والمكابرة المانعين لشعاع الحق أن ينفذ إلى العقول ، ولحرارته أن تخترق الصدور إلى القلوب ، هؤلاء هم أنصار الحق ؛ لأنهم بيقينهم لا يستطيعون المروق منه ، ولا السكوت عن الانتصار له ، ألم تر أن كبار الصحابة كانوا يراجعون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يظهر لهم دليله ؛ لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالدليل ، هؤلاء هم الناس الذين تنزل الشرائع لأجلهم ، ولولا استعدادهم لها لما شرعت أو لما نجحت ، وأما سائر الناس فتبع لهم وعيال عليهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية