الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 661 ] كتاب الأطعمة

                                        379 - الحديث الأول : عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه - إن الحلال بين ، والحرام بين وبينهما مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات : استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات : وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله . ألا وهي القلب } .

                                        التالي السابق


                                        هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين ، فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب . وهو أصل كبير في الورع ، وترك المتشابهات في الدين

                                        والشبهات لها مثارات منها : الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل ، أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام " لا يعلمهن كثير من الناس " إشارة إلى هذا المثار ، مع أنه يحمل أن يراد : لا يعلم عينها ، وإن علم [ ص: 662 ] حكم أصلها في التحليل والتحريم . وهذا أيضا من مثار الشبهات . وقوله عليه السلام " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة ، وصنفوا فيها تصانيف ، وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال : إن كان هذا الشيء مباحا - والمباح ما استوى طرفاه - فلا ورع فيه ; لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال ، وجمع بين المتناقضين ، وبنى على ذلك تصنيفا . والجواب عن هذا عندي من وجهين :

                                        أحدهما : أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله ، وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المباح المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول . وقال : إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى ، فإن المباح قد صار منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين ، فلا يدل اللفظ على التساوي ، إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه .

                                        الثاني : أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته ، راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان . وعلى الجملة : فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة ، وإلا فيعسر ترجيح تركه ، إلا أن يقال : إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا ، وبه يشعر لفظ الحديث .

                                        وقوله عليه السلام " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " يحتمل وجهين :

                                        أحدهما : أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه : أثر ذلك استهانة في نفسه ، توقعه في الحرام مع العلم به .

                                        والثاني : أنه إذا تعاطى الشبهات : وقع في الحرام في نفس الأمر ، فمنع من تعاطي الشبهات لذلك . [ ص: 663 ]

                                        وقوله عليه السلام " كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " من باب التمثيل والتشبيه " ويوشك " بكسر الشين بمعنى : يقرب " والحمى " المحمي ، أطلق المصدر على اسم المفعول . وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا ، وعلى ترك المأمورات التزاما ، وإطلاقها على الأول أشهر ، وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه ، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ، ورتب الأمر فيه على المضغة ، والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح .




                                        الخدمات العلمية