الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( فإن تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص ; لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان ، كما لو نسي عضوا من أعضائه فلم يغسله . وروى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله : أنه قال : تصح صلاته ولا إعادة عليه ; لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع . وإن كان في رحله ماء وأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى ، ففيه وجهان ، قال أبو علي الطبري : لا تلزمه الإعادة ; لأنه غير مفرط في الطلب ، ومن أصحابنا من قال : تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الرحل : منزل الرجل من حجر أو مدر أو شعر أو وبر . كذا نقله الأزهري وسائر أهل اللغة ، قالوا : ويقع أيضا اسم الرحل على متاعه وأثاثه ومنه البيت المشهور :

                                      ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

                                      [ ص: 305 ] وكلام المصنف والفقهاء في هذا الباب يتناول الرحل بالمعنيين ، وقد غلط وجهل من أنكر على الفقهاء إطلاقه بمعنى المتاع ، والله أعلم . ثم في الفصل خمس مسائل ذكر المصنف منها مسألتين : ( إحداها ) إذا تيمم بعد الطلب الواجب من رحله وغيره ، وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء يجب استعماله ، وكان علمه قبل التيمم ثم نسيه فالمنصوص في مختصر المزني وجامعه الكبير والأم وجميع كتب الشافعي أنه يلزمه إعادة الصلاة .

                                      وقال أبو ثور : سألت أبا عبد الله فقال : لا إعادة عليه هكذا حكاه الجمهور عن أبي ثور .

                                      وقال ابن المنذر في الأشراف ، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمصنف وآخرون : قال أبو ثور قال الشافعي : لا إعادة ، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق . أصحها وأشهرها : أن فيها قولين أصحهما وجوب الإعادة وهو الجديد ، والثاني : لا إعادة وهو القديم ، وقد ذكر المصنف دليلهما وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي . وقد قدمنا في فصل ترتيب الوضوء فرعا في مسائل من هذا القبيل في كل مسألة قولان . والطريق الثاني : القطع بوجوب الإعادة كما نص عليه الشافعي في كتبه ، وهؤلاء اختلفوا في الجواب عن رواية أبي ثور ، فقال كثيرون : لعله أراد بأبي عبد الله مالكا أو أحمد ، وضعف المحققون هذا بأن أبا ثور لم يلق مالكا ، وليس معروفا بالرواية عن أحمد ، وإنما هو صاحب الشافعي وأحد رواة كتبه القديمة كما قدمناه في مقدمة الكتاب ، ولأن مذهب أحمد وجوب الإعادة ، وتأول هؤلاء روايته على أن غيره أدرج الماء في رحله وهو لا يعلم ، فالصحيح في هذه الصورة أنه لا إعادة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وممن قال بهذا التأويل أبو الفياض البصري حكاه عنه الماوردي . الطريق الثالث : أن المسألة على حالين فنصه على وجوب الإعادة إذا كان الرحل صغيرا تمكن الإحاطة به ، ورواية أبي ثور إذا كان كبيرا لا تمكن الإحاطة به .

                                      حكاه الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة ، وحكاه الشاشي عن أبي الفياض . ( المسألة الثانية ) : إذا علم في موضع نزوله بئرا ثم نسيها وتيمم وصلى ثم [ ص: 306 ] ذكرها فهو كنسيان الماء ، ففيه الطريقان الأولان ، فأما إذا لم يعلم البئر أصلا ، ثم علمها بعد صلاته بالتيمم ، فقال صاحب الشامل والشيخ نصر وغيرهما : قال الشافعي في الأم : لا إعادة ، وقال في البويطي : تجب الإعادة ، قالوا : وأراد بالأول إذا كانت البئر خفية . وبالثاني إذا كانت ظاهرة ، وذكر صاحب الحاوي فيها ثلاثة أوجه . أحدها : تجب الإعادة ، وهو قول ابن خيران . والثاني : لا تجب ، وهو قول ابن سريج ، والثالث : إن كانت ظاهرة الأعلام بينة الآثار وجبت الإعادة لتقصيره ، وإن كانت خفية لم تجب لعدم تقصيره ، قال : وبهذا قال الشيخ أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين ، وهذا الثالث هو الصحيح ، ولو كان الماء يباع فنسي أن معه ثمنه فصلى بالتيمم ثم ذكر ، فالمذهب الصحيح الذي قطع به الدارمي والشيخ نصر في كتابيه الانتخاب والكافي أنه كنسيان الماء في رحله ، وفيه احتمال لابن كج حكاه الرافعي .

                                      ( المسألة الثالثة ) : إذا أدرج غيره الماء في رحله ولم يعلم صاحب الرحل إلا بعد صلاته بالتيمم ، فطريقان مشهوران حكاهما الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي وصاحب العدة وآخرون . أحدهما : أنه على القولين في نسيان الماء في رحله لكن أصحهما هنا أنه لا إعادة وهناك وجوب الإعادة . والطريق الثاني : القطع بعدم الإعادة ; لعدم تقصيره وهذا الطريق صححه إمام الحرمين والغزالي في البسيط ، ثم الجمهور أطلقوا المسألة كما ذكرنا .

                                      وقال البغوي : إن طلب في رحله فلم يجد فذهب للطلب من موضع آخر فأدرج في غيبته فلا إعادة ، وإن لم يطلب من رحله لعلمه أن لا ماء فيه ، وكان قد أدرج ولم يعلم فالأصح وجوب الإعادة لتقصيره .

                                      ( الرابعة ) : لو كان في رحله ماء فطلب الماء في رحله ، فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده ، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة ، وإن أمعن حتى ظن العدم فوجهان ، وقيل قولان ، وهما مخرجان من القولين في الخطأ في القبلة ، [ ص: 307 ] أصحهما : وجوب الإعادة وبه قطع الفوراني لندوره . والثاني : لا ; لعدم تقصيره .

                                      ( الخامسة ) : إذا كان في رحله ماء فأخطأ رحله بين الرحال لظلمة أو غيرها فطلبه فلم يجده فصلى بالتيمم ثم وجده ، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة ، وإن أمعن فثلاثة طرق . أصحها وأشهرها : أن فيه وجهين أصحهما لا إعادة .

                                      والثاني : تجب وبهذا الطريق قطع المصنف وكثيرون ، ودليلهما في الكتاب .

                                      ( والطريق الثاني ) : القطع بعدم الإعادة ، وبه قطع الماوردي والفوراني والبغوي .

                                      ( والثالث ) : إن وجده قريبا وجبت الإعادة ، وإن كان بعيدا فلا إعادة حكاه الرافعي عن الحليمي ، قال الرافعي : والمذهب أنه لا إعادة مطلقا ، وقال الروياني في الحلية : إن أضل رحله فلا إعادة ، وإن أضله بين الرحال لزمه الإعادة ، والمشهور أنه لا فرق والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو غصب رحله الذي به الماء وحيل بينه وبينه تيمم ولا إعادة بلا خلاف ، كما لو حال دونه سبع ; ولأنه غير مفرط بخلاف الناسي . ولو ضل عن القافلة أو عن الماء صلى بالتيمم ولا إعادة بالاتفاق ، وممن صرح به الروياني وصاحب العدة والشاشي وصاحب البيان وآخرون وهو واضح والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أبو العباس الجرجاني في كتابه المعاياة : لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم لزمه الإعادة على الأصح ، ولو عجز عن استعمال الماء فتيمم وصلى لم تلزمه الإعادة ، ولو صلى بنجاسة نسيها أو عجز عن إزالتها لزمه الإعادة ، فسوينا بين العجز والنسيان في النجاسة ، وفرقنا بينهما في التيمم ، والفرق : أنه أتى في التيمم ببدل بخلاف النجاسة .

                                      ( فرع ) قد ذكر المصنف هنا أبا ثور وأبا علي الطبري وتقدم ذكر أبي علي في باب الشك في نجاسة الماء ، وهناك بينا اسمه وحاله ، وتقدم بيان حال أبي ثور في آخر الفصول التي في مقدمة الكتاب ، وأما قول الغزالي في [ ص: 308 ] الوسيط في نسيان الماء في رحله ، وفيه قول قديم كما في نسيان الفاتحة وترتيب الوضوء ناسيا ، فكذا وقع في النسخ وصوابه : حذف لفظة ناسيا .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم ثم علمه فالصحيح في مذهبنا : وجوب الإعادة ، وبه قال أبو يوسف وأحمد ورواية عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأبو ثور وداود : لا إعادة وهي رواية عن مالك وحكاه محمد بن جرير عن سفيان الثوري . واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي بإسناد حسن ; ولأنه صلى على الوجه الذي يلزمه ذلك الوقت فلم تلزمه إعادة ; ولأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فأشبه السبع ; ولأنه صلى ولا يعلم معه ماء فلم تلزمه إعادة كمن صلى ثم رأى بقربه بئرا .

                                      واحتج أصحابنا بأن التيمم لا يكفي واجد الماء بالاتفاق إذا لم يكن مريضا ونحوه ، وهذا واجد والنسيان لا ينافي الوجود فهو واجد غير ذاكر ; ولأنه شرط للصلاة فلم يسقط بالنسيان كستر العورة ، وغسل بعض الأعضاء ، وكمريض صلى قاعدا متوهما عجزه عن القيام وكان قادرا ، وكحاكم نسي النص فحكم بالقياس ، وكمن نسي الرقبة في الكفارة فصام ، وكمن كان الماء في إناء على كتفه فنسيه فتيمم وصلى فإنه يعيد بالاتفاق ، ذكره القاضي أبو الطيب .

                                      والجواب عن الحديث الذي احتجوا به : أن أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول اختلفوا فيه هل هو مجمل أم عام ؟ فإن قلنا : مجمل توقف الاحتجاج به على بيان المراد فلا حجة لهم فيه ، وإن قلنا عام وهو الأصح فقد خص منه غرامات المتلفات ، ومن صلى محدثا ناسيا ، ومن نسي بعض أعضاء طهارته ، ومن نسي ساتر العورة وغير ذلك مما ذكرناه في دليلنا وغيره مما هو معروف ، فكذا يخص منه نسيان الماء في رحله قياسا على نسيان بعض الأعضاء وغيره مما ذكرناه ، فإن التخصيص بالقياس جائز ، فهذا هو الجواب الذي نعتقده ونعتمده ، وأما أصحابنا في كتب المذهب فيقولون : المراد رفع الإثم بدليل وجوب غرامة الإتلاف ناسيا والقتل خطأ ، وهذا ضعيف ; لأنه إن كان الحديث عاما فليس تخصيصه منحصرا في رفع [ ص: 309 ] الإثم ، فإن أكل الناسي في الصوم وكلام الناسي في الصلاة وغير ذلك لا يضر ، وإن كان مجملا فيتوقف فيه إلى البيان .

                                      والجواب عن قولهم : صلى على الوجه الذي يلزمه : أنه إن أرادوا يلزمه في نفس الأمر فلا نسلمه ، وإن أرادوا في الظاهر وبالنسبة إلى اعتقاده فينتقض بمن نسي بعض الأعضاء ، وعن القياس على السبع أنه لا تقصير فيه بخلاف مسألتنا ، ولهذا اتفقنا على أن السبع لو حال بينه وبين ساتر العورة صحت صلاته عاريا ، ولو تركها ناسيا أعاد . وأما قياسهم على البئر ، فإن كانت ظاهرة لزمه الإعادة كما سبق فلا نسلم حكمها ، وإن كانت خفية فالفرق أنه لا ينسب فيها إلى تفريط بخلاف النسيان والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية