الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 102 ] قال أبو محمد : ثم نصير إلى أصحاب الرأي فنجدهم أيضا يختلفون ويقيسون ثم يدعون القياس ويستحسنون ويقولون بالشيء ويحكمون به ثم يرجعون .

        أبو حنيفة :

        حدثني سهل بن محمد قال : حدثنا الأصمعي عن حماد بن زيد قال : سمعت يحيى بن مخنف قال : جاء رجل من أهل المشرق إلى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة عاما أول فعرضه عليه مما كان يسأل عنه فرجع عن ذلك كله [ ص: 103 ] فوضع الرجل التراب على رأسه ثم قال : يا معشر الناس أتيت هذا الرجل عاما أولا فأفتاني بهذا الكتاب ، فأهرقت به الدماء ، وأنكحت به الفروج ، ثم رجع عنه العام .

        قال ابن قتيبة : فحدثني سهل بن محمد عن المختار بن عمرو أن الرجل قال له كيف هذا ؟ قال كان رأيا رأيته ، فرأيت العام غيره ، قال فتأمنني أن لا ترى من قابل شيئا آخر ؟ قال لا أدري ، كيف يكون ذلك ؟ فقال له الرجل : لكني أدري أن عليك لعنة الله .

        قال ابن قتيبة : وكان الأوزاعي يقول : إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى ، كلنا يرى ، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخالفه إلى غيره .

        حدثني سهل بن محمد قال : حدثنا الأصمعي عن حماد بن زيد قال : شهدت أبا حنيفة سئل عن محرم لم يجد إزارا فلبس سراويل ، فقال : عليه الفدية . فقلت : سبحان الله ، حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في المحرم : [ ص: 104 ] إذا لم يجد إزارا لبس سراويل ، وإذا لم يجد نعلين لبس خفين فقال : دعنا من هذا ، حدثنا حماد عن إبراهيم أنه قال : عليه الكفارة .

        قال ابن قتيبة : وروى أبو عاصم عن أبي عوانة قال : كنت عند أبي حنيفة ، فسئل عن رجل سرق وديا ، فقال : عليه القطع ، فقلت له : حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع في ثمر ولا كثر فقال : ما بلغني هذا . قلت له : فالرجل الذي أفتيته رده ، قال : دعه فقد جرت به البغال الشهب .

        قال أبو عاصم : أخاف أن تكون إنما جرت بلحمه ودمه .

        وقال علي بن عاصم : حدثت أبا حنيفة بحديث عبد الله في الذي [ ص: 105 ] قال : من يذبح للقوم شاة أزوجه أول بنت تولد لي ، ففعل ذلك الرجل ، فقضى ابن مسعود أنها امرأته وأن لها مهر نسائها ، فقال أبو حنيفة : هذا قضاء الشيطان .

        قال ابن قتيبة : ولم أر أحدا ألهج بذكر أصحاب الرأي وتنقصهم والبحث على قبيح أقاويلهم والتنبيه عليها من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه . وكان يقول : نبذوا كتاب الله تعالى ، وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولزموا القياس .

        استدراكات ابن راهويه على أصحاب الرأي :

        وكان يعدد من ذلك أشياء ، منها قولهم : إن الرجل إذا نام جالسا ، واستثقل في نومه ، لم يجب عليه الوضوء . ثم أجمعوا على أن كل من أغمي عليه منتقض الطهارة ، قال : وليس بينهما فرق . على أنه ليس في المغمى عليه أصل فيحتج به في انتقاض وضوئه ، وفي النوم غير حديث منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : العين وكاء السه ، فإذا نامت العين انفتح الوكاء [ ص: 106 ] وفي حديث آخر : من نام فليتوضأ . قال : فأوجبوا في الضجعة الوضوء إذا غلبه النوم وأسقطوه عن النائم المستثقل راكعا أو ساجدا . قال : وهاتان الحالان في خشية الحدث أقرب من الضجعة ، فلا هم اتبعوا أثرا ولا لزموا قياسا . قال وقالوا : من تقهقه بعد التشهد أجزأته صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى . قال : فأي غلط أبين من غلط من يحتاط لصلاة لم تحضر ولا يحتاط لصلاة هو فيها . قال : وقالوا في رجل توفي وترك جده أبا أمه وبنت بنته : المال للجد دون بنت البنت وكذلك هو عندهم مع جميع ذوي الأرحام . قال فأي خطأ أفحش من هذا ؛ لأن الجد يدلي بالأم فكيف يفضل على بنت البنت وهي تدلي بالبنت إلا أن يكون شبهوا أبا الأم بأبي الأب إذ اتفق أسماؤهما .

        قال أبو محمد : وحدثنا إسحاق الحنظلي وهو ابن راهويه قال : حدثنا وكيع أن أبا حنيفة قال : ما باله يرفع يديه عند كل رفع وخفض ؟ أيريد أن يطير ؟ فقال له عبد الله بن المبارك : إن كان يريد أن يطير إذا افتتح ، فإنه يريد أن يطير إذا خفض ورفع . [ ص: 107 ] قال هذا مع تحكمه في الدين كقوله : أقطع في الساج والقنا ولا أقطع في الخشب والحطب ، وأقطع في النورة ولا أقطع في الفخار والزجاج .

        فكأن الفخار والزجاج ليسا مالا وكأن الآبنوس ليس خشبا .

        وقال إسحاق بن راهويه : وسئل - يعني أبا حنيفة - عن الشرب في الإناء المفضض فقال : لا بأس به ، إنما هو بمنزلة الخاتم في إصبعك فتدخل يدك الماء فتشربه بها ، وكان يعدد من هذا أشياء يطول الكتاب بها ، وأعظم منها مخالفة كتاب الله كأنهم لم يقرءوه .

        وكان أبو حنيفة لا يدي لولي المقتول عمدا إلا أن يعفو أو يقتص وليس له أن يأخذ الدية ، والله تبارك وتعالى يقول : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة يريد : فمن عفا عن الدم فليتبع بالدية اتباعا بالمعروف ، أي : يطالب مطالبة جميلة ، لا يرهق المطلوب وليؤد المطالب المطلوب أداء بإحسان ، لا مطل فيه ولا دفاع عن الوقت .

        ثم قال - جل وعز - ذلك تخفيف من ربكم ورحمة يعني تخفيفا عن المسلمين مما كان بنو إسرائيل ألزموه فإنه لم يكن لولي إلا أن يقتص أو يعفو .

        [ ص: 108 ] ثم قال جل وعز : فمن اعتدى بعد ذلك أي بعد أخذ الدية ، فقتل فله عذاب أليم قالوا يقتل ولا تؤخذ منه الدية وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية وهذا وأشباهه من مخالفة القرآن لا عذر فيه ، ولا عذر في مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العلم بقوله .

        فأما الرأي في الفروع فأخف أمرا وإن كان مخارج أصول الأحكام ومخارج الفرائض والسنن على خلاف القياس وتقدير العقول .

        قال ابن قتيبة : حدثني الزيادي قال حدثني عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير قال : قال علي بن أبي طالب : ما كنت أرى أن أعلى القدم أحق بالمسح من باطنها حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على أعلى قدميه .

        وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال : سمعت زفر بن هذيل يقول : [ ص: 109 ] في رجل أوصى لرجل بما بين العشرة إلى العشرين .

        قال يعطي تسعة ، ليس له ذلك العقد ، ولا هذا العقد . كما تقول : " له ما بين الأسطوانتين " فله ما بينهما ، ليست له الأسطوانتان .

        فقلنا له : فرجل معه ابن له محظوظ ، قيل له : كم لابنك ؟ قال ما بين الستين إلى اثنين وستين ، فهذا - في قياسكم - ابن سنة . قال استحسن في هذا الموضع .

        قال أبو محمد : وحدثنا عن مالك ، في الموطأ ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، قال : سألت سعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل ، قلت : فكم في إصبعين ؟ قال : عشرون من الإبل ، قلت : فكم في ثلاث أصابع ؟ قال : ثلاثون من الإبل ، قلت : فكم في أربع أصابع ؟ قال : عشرون من الإبل ، قلت : حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها ؟ قال : هي السنة يا ابن أخي .

        أشد أهل العراق في الرأي والقياس :

        قال أبو محمد : وكان أشد أهل العراق في الرأي والقياس الشعبي وأسهلهم فيه مجاهدا .

        [ ص: 110 ] حدثني أبو الخطاب قال حدثني مالك بن سعيد قال : نا الأعمش عن مجاهد ، أنه قال : أفضل العبادة الرأي الحسن .

        وحدثني محمد بن خالد عن محمد بن خداش قال : حدثني مسلم بن قتيبة قال : نا مالك بن مغول قال : قال لي الشعبي - ونظر إلى أصحاب الرأي - ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاقبله ، وما خبروك به عن رأيهم فارم به في الحش .

        وكان يقول : إياكم والقياس ، فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم الحرام .

        قال أبو محمد : حدثني الرياشي قال : نا الأصمعي ، عن عمر بن أبي زائدة قال : قيل للشعبي : إن هذا لا يجيء في القياس ، فقال : أير في القياس .

        وحدثني الرياشي عن أبي يعقوب الخطابي عن عمه عن الزهري أنه قال : الحديث ذكر يحبه ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية