الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولا يطهر بالدباغ إلا الإهاب وحده ، ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذوات الروح أو كان يطهر بالدباغ لكان ذلك في قرن الميتة وسيها وجاز في عظمها ، لأنه قبل الدباغ وبعده سواء .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الظاهر من مذهب الشافعي والمعول عليه من قوله إن الصوف ، والشعر ، والريش ، والوبر ضربان : طاهر ، ونجس ، فالطاهر ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما أخذ من المأكول اللحم في حياته .

                                                                                                                                            والثاني : ما أخذ منه بعد ذكاته .

                                                                                                                                            والنجس ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما أخذ من غير المأكول وما أخذ من ميت وأنه ذو روح إذا فقدها نجس بالموت ، وكذلك في العظم ، والقرن ، والسن ، والظفر ينجس بالموت ، هذا المروي عن الشافعي - رحمه الله - في كتبه ، والذي نقله أصحاب القديم ، وحكى أبو العباس بن سريج ، عن أبي القاسم الأنماطي ، عن إبراهيم المزني ، أن الشافعي رجع عن تنجيس الشعر ، وحكى إبراهيم البلدي ، عن المزني ، أن الشافعي رجع عن تنجيس شعر ابن آدم ، وحكى [ ص: 67 ] الربيع بن سليمان الجيزي ، عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد ينجس بنجاسته ويطهر بطهارته واختلف أصحابنا في هذه الحكايات الثلاث التي شذت عن الجمهور وخالفت المسطور ، فكان بعضهم يجعلها قولا ثانيا للشافعي في الشعر أنه طاهر لا ينجس بالموت ، ولا يحله روح وامتنع جمهورهم من تخريجها قولا للشافعي لمخالفتها نصوص كتبه وما تواتر به النقل الصحيح عن أصحابه وأنه قد يحتمل ذلك منه حكاية غيره . وأما شعر بني آدم فخرجوه على قولين .

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الأشهر عنه أنه نجس بعد انفصاله وإن عفى عن يسيره ، لأنه شعر غير مأكول .

                                                                                                                                            والثاني : وهو محكي عنه في الجديد أنه طاهر ؛ لأن ابن آدم لما اختص شعره بالطهارة ميتا اختص شعره بالطهارة منفصلا ، وكان أبو جعفر الترمذي من أصحابنا يزعم أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم وحده طاهر ، وشعر غيره من الناس نجس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حلق شعره بمنى قسمه بين أصحابه ، ولو كان نجسا لمنعهم منه ، وليس بمنكر اختصاص نبي الله صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة قيل له : وإن كان هذا دليلا على طهارة شعره فقد حجمه أبو طيبة وشرب من دمه بحضرته ، أفتقول إن دمه طاهر ؟ فركب الباب ، وقال : أقول بطهارته ، لأنه لا يجوز أن يقر أحدا على منكر ، وقد أقر أبا طيبة على شربه .

                                                                                                                                            قيل : فقد روي أن امرأة شربت بوله فقال : " إذا لا يوجعك بطنك " أفتقول بطهارة بوله ؟ قال : لا ؛ لأن البول منقلب من الطعام والشراب ، وليس كذلك الشعر والدم ، لأنهما من أصل الخلقة قيل له : فقد بطل دليلك على طهارة دمه بإقراره أبا طيبة على شرابه ، وهذا قول مدخول ورسول الله صلى الله عليه وسلم كسائر أمته كان منهم طاهر ونجس ، وما فعله من تقسيم شعره بين [ ص: 68 ] أصحابه فقد ألقى شعره مرارا ولم يقسمه ولا خص به أحدا ، وإنما فعل ذلك مرة بمنى ، وقصد به أحد أمرين : إما التوصل إليهم من بركته ، وإما لتميز من خصه فيصير ذلك لهم شرفا وفخرا ، وقد أنكر على أبي طيبة شربه دمه ونهاه عن مثله وقال : حرم الله جسمك على النار .

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما وصفنا فالمذهب نجاسة الشعر بالموت لحلول الروح فيه ، ومن أصحابنا من قال : أقول فيه لا حياة ولا أقول فيه روح ، وهذا اختلاف عبارة تتفق المعنى فيه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الشعر والعظم ليس بذي روح ، ولا ينجس بالموت .

                                                                                                                                            وقال مالك : الشعر ليس بذي روح ولا في العظم روح تنجس بالموت .

                                                                                                                                            واستدلوا على ذلك من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن لا روح فيه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا ينجس بالموت .

                                                                                                                                            فأما دليلهم على أن لا روح فيه فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن الألم من سمات الروح ، فلما كان وجوده دليلا على ثبوت الحياة كان انتفاؤه دليلا على عدم الحياة ، وليس في الشعر والعظم ألم فلم يكن فيه حياة .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما حلته الحياة أسرع إليه الفساد بزوال الحياة كاللحم ، فلما كان العظم والشعر على حال واحدة قبل الموت وبعده في انتفاء الفساد عنه دل على أن لا حياة فيه .

                                                                                                                                            والثالث : أن ما حلته الحياة فالشرع مانع من أخذه منه في حال الحياة كالجلد وما لم تحله الحياة لم يمنع الشرع من أخذه منه في حال حياته كاللبن ، فلما جاز أخذ الشعر من الحيوان دل على أن ليس فيه حياة .

                                                                                                                                            وأما دليله على أنه لا ينجس بالموت فمن أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ النحل : 80 ] فكان منها دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما يقتضيه عموم لفظها من التسوية بين الحي والميت . [ ص: 69 ] والثاني : أنه خطاب خرج على وجه الامتنان فلم يجز أن يحكم بتنجيس شيء منه لما فيه من إسقاط الامتنان .

                                                                                                                                            والثاني : حديث أم سلمة أن النبي عليه السلام قال : " لا بأس بمسك الميت إذا دبغ وشعرها إذا غسل " ، فما اقتضى هذا الحديث طهارة الشعر بعد الغسل ، والعين النجسة لا تطهر بالغسل ، دل على طهارة الشعر قبل الغسل .

                                                                                                                                            والثالث : ما روي أن النبي - عليه السلام - سئل عن الفراء فقال : " أين الدباغ " فدل على طهارة الشعر بالدباغ .

                                                                                                                                            والرابع : أن الأعيان التي لا تنجس بانفصالها من الحيوان الحي لا تنجس باتصالها بالحيوان كالولد طردا والأعضاء عكسا ، فلما لم ينجس الشعر بأخذه حيا لم ينجس باتصاله ميتا .

                                                                                                                                            والدلالة عليهم من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : إثبات الحياة فيه .

                                                                                                                                            والثاني : نجاسة الموت . فأما الدليل على ثبوت الحياة فثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 78 ، 79 ] . والإحياء إنما يكون بحياة تعود بها إلى ما قبل الموت .

                                                                                                                                            والثاني : أن النماء من سمات الحياة لحدوث النماء بوجودها وفقده بزوالها ، فلما كان الشعر ناميا في حال الاتصال مفقود النماء بعد الانفصال دل على ثبوت الحياة فيه .

                                                                                                                                            والثالث : أن ما اتصل ناميا بذي حياة وجب أن تحله كاللحم طردا واللبن عكسا .

                                                                                                                                            وأما الدليل على نجاسة بالموت فخمسة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] . هذا تحريم تنجيس لعدم حرمته والشعر من جملة الميتة ؛ لأنه لو حلف لا يمس ميتة يحنث بمسه وليس إذا انفرد باسم بعد الانفصال فخرج من أن يكون من الجملة في الاتصال كاسم الإنسان ، وإذا كان كذلك وجب أن يدخل في عموم التحريم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه شعر نابت على محل نجس فوجب أن يكون نجسا كشعر الخنزير .

                                                                                                                                            والثالث : أن ما طرأ على الحيوان من حظر تعلق به وبالشعر كالإحرام . [ ص: 70 ] والرابع : أن ما ورد التعبد بقطعه في حال نجس بالموت قياسا على موضع الختان ، والتعبد في قطع الشعر يكون في حال الإحرام .

                                                                                                                                            والخامس : أن ما وجب الأرش بقطعه لحقه حكم التنجيس كاللحم .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قولهم : إن علة الحياة حدوث الألم فهو أن للحياة علتين : حدوث الألم في حال ، ووجود النماء في حال ، وكل واحد منهما علة للحياة ، ولا يجوز أن يكون فقد الألم مانعا من ثبوت الحياة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قد يفقد الألم من لحم العصب ولا يدل على عدم الحياة فكذلك الشعر .

                                                                                                                                            والثاني : أن الألم قد يختلف في المواضع المؤلمة على حسب كثرة الدم فيه أو قربه من العصب ولا يدل ذلك على أن الحياة مختلفة فيه بحسب ألمه ، فكذلك في حال عدمه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن امتناع الفساد عنه دليل على عدم الحياة منه فليس بصحيح ، لأن إسراع الفساد إنما يكون لكثرة الرطوبة ، ألا ترى أن الجلد قبل دباغه يسرع إليه الفساد لرطوبته وبعد الدباغ ينتفي عنه الفساد لذهاب رطوبته ، ولا يدل على أن الجلد لا حياة فيه كذلك الشعر .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بورود الشرع بإباحة أخذه في الحياة بخلاف اللحم فهو أن هذا لا يدل على وجود الحياة في اللحم وفقدها في الشعر ، ولكن أخذ الشعر في حال الحياة لا يضر بالحيوان وربما نفعه ، فورد الشرع بإباحة أخذه لانتفاء الضرر عنه ، واللحم في أخذه منه إضرار به : فمنع الشرع من أخذه منه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بقوله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ النحل : 80 ] . فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنها عامة ومخصوصة بما ذكرنا من الدليل .

                                                                                                                                            والثاني : أنها مجملة لأنه أباحها إلى حين ، فقد يحتمل ذلك إلى حين الموت .

                                                                                                                                            والثالث : أنها تقتضي التبعيض ، لأنه قال : ومن أصوافها فدل على أن منها ما لا يكون أثاثا ، ومنها ما يكون أثاثا .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بحديث أم سلمة ، فراويه يوسف بن السفر ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي سليم ، عن أم سلمة ، عن النبي - عليه السلام - ويوسف بن السفر ضعيف ، ولو صح لكان الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 71 ] أحدهما : أن قوله لا بأس لا يدل على الطهارة وإنما يقتضي إباحة الاستعمال .

                                                                                                                                            والثاني : أنه شرط فيه الغسل ، فاقتضى أن يكون قبل الغسل نجسا ، والغسل غير معتبر فلم يكن في ظاهره دليل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله حين سئل عن الفراء " أين الدباغ " يعني لاستصلاح لبسها إذ لا يكون لبسها قبل الدباغ .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم فإنما لم ينجس بموت الأم لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه منفصل عنها والشعر متصل بها .

                                                                                                                                            والثاني : أن الحياة لا تفارق الولد بموت الأم وتفارق الشعر بموت الأصل لوجود النماء في الولد وفقد النماء في الشعر ، فإذا ثبت نجاسة الشعر بالموت فلا يطهر بالغسل ، ولا بالدباغ .

                                                                                                                                            وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي : والشعر ينجس بالموت ، ولكن مطهر بالغسل لقوله عليه السلام : " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وشعرها إذا غسل " وهذا الذي قالوه ليس بصحيح ؛ لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل كاللحم ، والروث ، والخبر محمول على نفي الناس في إباحة الاستعمال في حصول التطهير ، فلو دبغ جلد الميتة بشعره لطهر الجلد دون الشعر ، لتأثير الدباغة في الجلد دون الشعر ، ولا يستحب استعماله إلا بعد إماطة الشعر عنه ، فإن استعماله قبل إماطته في يابس جاز ، وإن استعماله في ذائب نظر ، فإن استعمله في باطنه الذي لا شعر عليه جاز ، وإن استعمله في ظاهره الذي عليه الشعر نجس ، إلا أن يكون قلتين من ماء فيكون طاهرا . [ ص: 72 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية