الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 25 ] الرابع : في التأخير والتعجيل قال في الكتاب : أحب إلي أن يصلي الظهر في الشتاء والصيف والفيء ذراع كما أمر به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واستحب الشافعي - رحمه الله - التعجيل أول الوقت ، أبو حنيفة التأخير إلى آخر الوقت للفذ والجماعة . لنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عماله : إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ، ثم كتب أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله . حجة الشافعي ما في الموطأ أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس ، وعن أبي داود كان - عليه السلام - يصلي الظهر إذا زالت الشمس وكان يشعر بالدوام والعادة ، وفيه أيضا سئل - عليه السلام عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة لأول وقتها . حجة أبي حنيفة ما في الموطأ أن أبا هريرة سئل عن أول وقت الصلاة فقال : للسائل صل الظهر إذا كان ظلك مثلك ، والعصر إذا كان ظلك مثليك .

                                                                                                                وجواب الشافعي أن كتابه لأبي موسى الأشعري تحذير عن قبل الزوال أو يخصه بذلك في نفسه جمعا بين كتابته ، وعن الثاني أن نعلم أن الأذان بعد الزوال ; لاجتماع الناس [ ص: 26 ] والنفل ، وهذه سنة السلف .

                                                                                                                وجواب أبي حنيفة عما في الموطأ عن أبي هريرة أنه سئل عن وقت الصلاة ، لعل ذلك كان في زمن الشتاء إذا كان ظل الزوال كذلك ، أو لعله سئل عن آخر الوقت فلا يكون بينه وبين قول عمر خلاف بل قول عمر أرجح ; لكونه إمام المسلمين ، وأكثر فحصا عن دينهم ، وأما قوله : والفيء ذراع فالفيء لا يقال إلا بعد الزوال ; لأن الظل يفيء للزيادة بعد النقصان أي : يرجع وأما الذراع فقال التونسي : هو ربع القامة فإنه الغالب من كل إنسان ، قال صاحب الطراز : علة ذلك اجتماع الناس ، وأما الفذ فظاهر قوله أنه لا يؤخر وكذلك نص عليه ابن أبي زيد في الرسالة وهو قول ابن حبيب والعراقيين فيه وفي الجماعة المتوفرة ، وروى ابن القاسم أنه يؤخر قليلا ; لأن مساجد الجماعات أصل في الصلوات وما عداهم تبع لهم .

                                                                                                                فرع : مرتب

                                                                                                                قال صاحب الطراز : ظاهر الكتاب أن الذراع لا يزاد عليه ; لشدة الحر لذهابه به وقال أشهب ، والشافعي : يؤخر ذراعين لما في أبي داود أن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة . قال أبو داود : حتى رأينا الفيء في التلول . ومعنى الإبراد : الدخول [ ص: 27 ] في وقت البرد نحو أتهم وأنجد ، إذا دخل تهامة ونجدا ، وأصبح وأمسى إذا دخل في الصباح والمساء ، والتلول : جمع تل وهو الرابية ، وفيح جهنم : انتشار حرها وأصله السعة ومنه مكان أفيح وأرض فيحاء أي : واسعة ويحتمل أن يكون ذلك من جهنم حقيقة كما روي أن النار اشتكت إلى ربها أن قد أكل بعضي بعضا فأذن لها في نفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدونه من الحر في الصيف فهو من نفسها ، وأشد ما ترونه من البرد في الشتاء فهو منها ، وقيل : أراد التشبيه واختلف في إبراد الفذ ، فقال ابن حبيب : لا يبرد ، واشترط الشافعي في الإبراد أربعة شروط : الاجتماع في المسجد ، وشدة الحر ، والبلاد الحارة كالحجاز وبعض العراق ، واختلف قوله في إتيان الناس المسجد من بعد ، واختار الباجي إلحاق الفذ بالجماعة بجامع الحر المشغل عن مقاصد الصلاة قال : كالأحوال النفسانية نحو إفراط الجوع والعطش إذا حضرت الصلاة معهما .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال صاحب الطراز : قال مالك في المبسوط : لا تؤخر العصر عن وقتها مثل الظهر ، قال الباجي : وهو قول الجمهور من أصحابنا ; لأنها تدرك الناس متأهبين بخلاف الظهر فإنها تأتي وقت قائلة ودعة ، وسوى في التلقين بينهما وهو قول أشهب في النوادر ; لتحصيل فضيلة الجماعة ، وروى مالك ومسلم : الذي تفوته صلاة العصر فكأنهما وتر أهله وماله ، قال البخاري : وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا ، وأخذت ماله ، وقال [ ص: 28 ] الخطابي وتر : نقص وبقي وترا ، ولأن النفل بعدها ممنوع فتؤخر حتى يتنفل الناس وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : تؤخر ما دامت الشمس نقية وأما المغرب فيتعجل أول وقتها للعمل ، ولأن الأصل المبادرة إلى طاعة الله تعالى ، وأما العشاء فقال صاحب الطراز : يستحب تأخيرها ; لئلا تفوت الناس بسبب اشتغالهم بأعشيتهم ، ولا تؤخر جدا وقد أنكر في الكتاب تأخيرها إلى ثلث الليل خلافا ( ش ، ح ) وروى العراقيون تأخيرها لذلك لما في البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : مكثنا ذات ليلة ننتظر النبي ; لصلاة العشاء ، خرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فلا أدري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك ؟ فقال حين خرج : إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي ; لصليت بهم هذه الساعة ، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وهذا الحديث كما يدل على جواز التأخير ، يدل على ترك التأخير ; لانتفاء ذلك فإن " لولا " تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره ، ولقول ابن عمر فلا أدري أشيء شغله ؟ فإنه يدل على أن عادتهم خلاف ذلك ، وفي الجواهر قيل تقديمها أفضل ، وقال بعض المتأخرين : بالتقديم إن اجتمع الناس ، وينتظرون إن أبطأوا ، واستحب ابن حبيب تأخيرها في زمن الشتاء قليلا ; لطول الليل . وفي ليالي رمضان أكثر من ذلك توسعة على الناس في الإفطار وأما الصبح فتعجيلها أفضل على ظاهر الكتاب عند الشافعي خلافا ( ح ) محتجا بأن الواقع من التغليس كان لضرورة أنهم أرباب ضرورات في أعمالهم وفلاحتهم وأن الأصل [ ص: 29 ] التأخير لما في الترمذي أسفروا بالفجر ، فهو أعظم للأجر . وفي البخاري عن ابن مسعود أنه صلى حين طلع الفجر ، ثم قال : ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة هذا الوقت إلا في هذه الليلة في هذا المكان يعني يوم الجمع في الحج . لنا ما في مسلم سئل عليه السلام أي الأعمال أفضل فقال : الصلاة لأول وقتها . وما في أبي داود أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله . وما في الموطأ عن عائشة - رضي الله عنها - كان نساء مؤمنات يشهدن الفجر مع رسول الله متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن ما يعرفن من الغلس . والتلفع : التلفف ، والمرط : الكساء الغليظ ، وكان يشعر بالدوام ، ولقوله عليه السلام : إن بلالا يؤذن ليلا فكلوا ، واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ولولا التغليس لما حسن تقديم الأذان ، وفي أبي داود أنه - عليه السلام - أسفر مرة بالصبح ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله . والجواب عن قوله - عليه السلام - أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ، أنه محمول على تعدي وقت الظن إلى وقت اليقين ودليله قوله أسفروا بالفجر ، ولم يقل أسفروا بالصلاة وعلى هذا يحمل حديث ابن مسعود إذا ثبت أن التغليس أفضل ، قال صاحب الطراز : فعلها مع الجماعة في الإسفار أفضل من التغليس منفردا ; لأن فضيلة الجماعة مقدمة على فضيلة الوقت ، بدليل الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر .

                                                                                                                [ ص: 30 ] تمهيد

                                                                                                                الأصل أن المبادرة إلى طاعة الله تعالى في سائر الأحوال أفضل لما فيه من إظهار الطواعية والأمن من تفويت مصلحة العبادة ، إلا أن يقوم معارض راجح كالحر ، فإن الإبراد مقدم على مصلحة العبادة ; لأن المشي في الحر الشديد يذهب الخشوع الذي هو أفضل أوصاف الصلاة ولهذا أمرنا بالمشي إلى الجماعة بالسكينة والوقار ، وإن فاتت المبادرة وصلاة الجماعة ، وبركة الاقتداء وهذا عممه الشرع في سائر الصلوات ولذلك قال صاحب القبس : إذا تعارض الشغل والصلاة فالأخيار من العلماء على تقديم الشغل ; ليتفرغ للخشوع ، وقال غيره : ينبغي أن تؤخر الصلاة بكل مشوش ، ويؤخر الحاكم الحكم لأجله كإفراط الظمأ والجوع والحقنة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح :إذا حضر العشاء والصلاة ، زاد الدارقطني : وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء .

                                                                                                                تتمة

                                                                                                                قال في الكتاب : لم أر مالكا يعجبه هذا الحديث الذي جاء : إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها أعظم من الدنيا وما فيها ; لأنه كان يرى الناس يؤخرون الصلاة حتى يتمكن الوقت ، قال صاحب الطراز : يريد لم يكن يأخذ بعمومه لكن يراعي أول الوقت في الجملة ; ولأن راوي هذا [ ص: 31 ] الحديث من المرجئة ، فلا يأخذ مالك بحديثه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية