الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الأدب الثامن :

                                                                                                                قال ابن يونس : ينصف بينهما مجلسهما ، والنظر إليهما ، واستماعه منهما ، ولا ينظر إلى أحدهما بطلاقة وبشر أكثر ، ولا يسارر أحدهما ، ولا يساررهما جميعا إذا لم يسمع أحدهما ما يسارر به الآخر ، قال سحنون : ولا يضيف أحدهما ، ولا يخلو به أو يقف معه ، فإن ذلك مما يوهن خصمه ويدخل عليه سوء الظن ، قال أشهب : ولا يجيب أحدهما في غيبة الآخر ، إلا أن يعرف أن ذا من المختلف أو لم يكن يعرف وجه خصومة المدعي فيسمع منه حتى يعلم أمرهما ، وإذا جلسا فلا بأس أن يقول لهما : ما خصومتهما ، أو يدعهما حتى يبتدئاها ، أو يقول : أيكما المدعي ، فإن علمه سأله عن دعواه ، ويسكت عن صاحبه حتى يسمع حجته ، ثم يأمره بالسكوت ، ويستنطق الآخر ، ولا ينبغي أن يبدئ المدعى عليه بالنطق بل المدعي ، لأن صاحب الحق أرجح شرعا فيقدم ولا يعود لأحدهما بالسؤال فيقول : ما لك ؟ أو تكلم ، إلا أن يعلم أنه المدعي ، وإذا قال أحدهما : أنا المدعي وسكت الآخر ولم ينكر ، فلا بأس أن يسأله عن دعواه ، والأحسن أن يسأله حتى يقر الآخر بذلك ، فإن قال أحدهما : المدعي هذا ولم ينكر الآخر ، فله أن يسأله ، فإن قال كل واحد عن الآخر : هو المدعي ولست مدعيا فللقاضي أن يقيمها حتى يأتي أحدهما للخصومة فيكون هو الطالب ، قاله أصبغ ، وقال ابن الحكم : إذا قال كل واحد : أنا المدعي ، فإن كان أحدهما استمع أو جلب الآخر ، سمع منه أولا ، وإن لم يدر من جلب صاحبه ، ابتدأ بأيهما شاء ، فإن كان أحدهما ضعيفا فأحب إلي أن يبدأ بالآخر ، لأن الظاهر هو القوي الطالب .

                                                                                                                [ ص: 68 ] قال أصبغ : فإن أدلى المدعي بحجته : فقال القاضي للآخر : تكلم فإن تكلم نظر في ذلك ، وإن سكت أو قال له : أخاصمه إليك : قال له القاضي : إما خاصمت أو حلفت لهذا المدعي على دعواه ، وحكمت له إن كان مما يستحق من نكول المطلوب إن ثبتت له الخلطة ، لأن نكوله عن التكلم نكول عن اليمين ، وإن كان مما لا يثبت إلا بالبينة : طلب البينة ولا يسجنه حتى يتكلم ، ولكن يسمع صاحبه لأن البينة تحتمل التخريج من قبله ، وكان سحنون إذا شاغب الخصمان أغلظ عليهما ، وربما أمر القومة فزجروهما بالدرة ، وربما شاغبا حتى لا يفهم عنهما فيقول : قوما فإني لا أفهم عنكما ، وله الشد على عضد أحدهما إذا رأى ضعفه عن صاحبه وقربه منه ، ولا بأس أن يلقنه حجة له عمي عنها ، وإنما يكره أن يلقنه حجة الفجور ، وقد قال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من ثبت عييا في خصومة حتى يفهمها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ) ومنع سحنون شد عضد أحدهما ، وتلقينه حجته ; لأنه ميل مع أحدهما ، وإذا أقر أحدهما في خصومته بشيء للآخر فيه منفعة ; فعلى الحاكم أن ينبهه على نفعه بذلك ، ويكتبه له . قال سحنون : إذا كان في أمرهما شبهة وإشكال فلا بد أن يأخذهما بالصلح ، وتخاصم رجلان صالحان من أصحابه ، فأقامهما ولم يسمع منهما وقال : استرا على أنفسكما ولا تطلعاني من أموركما على ما ستر عليكما ، وقال عمر _ رضي الله عنه _ : رددوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا . فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن ، وكان سحنون إذا سأله أحد عن مسألة من مسائل الأحكام لم يجبه وقال : هذه مسألة خصومة ، إلا أن يعلم منه إرادة التفقه .

                                                                                                                قال مالك : لا يفتي القاضي في مسائل القضاء ، وأما غير ذلك فلا بأس ؛ لأنه عون على البخيل ، والقاضي لا يعين أحد الخصمين ، ولا يرفع الحاكم صوته على [ ص: 69 ] أحدهما دون الآخر ، قال أشهب : له أن يفعله ردعا له للدده ، ويعلم الله منه أنه لو كان من صاحبه ذلك ; لعمل به مثله ، فقد نهى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أن يقعد الخصمان بين يدي الحاكم ، وقال : ( إذا ابتلي أحدكم بالقضاء بين المسلمين فلا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر ) وفي النوادر : قال أشهب : جلوس الخصوم بين يديه هو الأصل ، فإن كان شأنه يجلس في أي موضع فواسع ، فإن عين المجلس لصداقة أو غيرها أجلسهما منه مجلسا واحدا ، ولا يضيف أحد الخصمين ولا يخلو به ولا يدخل عليه أحد الخصوم بينه ، وإن كان من إخوانه وقد كان يغشاه قبل ذلك ، إذا كان على الاختصاص ليس أمرا عاما ولا تكره له عيادة أحد الخصمين ، ولا شهود جنازة بعض أوليائه ، قال عبد الملك : ولا يدخل عليه أحد الخصمين في مجلس قضائه ، ولا وحده ولا في جماعة ، وإن كان من خاصته ، وليجلس خارجا حيث يأتيه الناس ؛ لأن ذلك كله موهن للآخر . قال اللخمي : قال أصبغ : يسوي بينهما في المجلس وإن كان أحدهما ذميا ، وقيل لا يسوي ، لقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ( لا تساووهم في المجلس ) قال ( ش ) : وأرى أن يجلسا جميعا ويتقدمه المسلم بالشيء اليسير واقفا ، فإن قال أحدهما أنا الطالب وإنما أحدث الآخر الدعوى عندما طلبته قد المشخص أولى ، أو الثالث أولا إن علم ، وإلا صرفهما ، فإن أبى أحدهما إلا الخصومة قدمه ، وإن [ ص: 70 ] بقي كل واحد متعلقا بالآخر أقرع بينهما ، وإن كان لكل واحد طلب عند الآخر وتشاحا في التبدئة أقرع بينهما لأنه أطيب للنفوس ، وقيل : يخبر ، وقال ابن عبد الحكم : يبدأ بالنظر أضعفهما ، فإن لم يعترف المدعى عليه ولم ينكر : قال محمد : يحكم عليه بغير يمين ، وقال أصبغ : يقول له الحاكم : إما أن تختصم أو حلفت المدعي وحكمت له إن كان مما يستحق بالنكول مع اليمين إذا أثبت لطخا ، قال اللخمي : المدعي مخير بين ثلاث بين أن يأخذ المدعى به بغير يمين على أنه متى عاد المدعى عليه إلى الإنكار أو الخصومة كان ذلك له ، أو يحلف الآن ويحكم له بعد أن يعرف المدعى عليه ذلك ، ولا ينقض له الحكم بعد ذلك إن أتى بحجة إلا ببينة لم يعلم بها ، كمن خاصم ولم يسكت أو يسجن له حتى يقر أو ينكر ; لأنه يقول : هو يعلم أن حق ، وقد يقر إذا سجن فلا أحلف ، كالمشتري يكتم الشفيع الثمن ، اختلف فيه ، هل يسجن أو يقال للشفيع : خذ ولا وزن عليك حتى يثبت الثمن ، وهذا إذا كانت الدعوى في معين : دارا أو عبدا ، وفي الذمة وأقام لطخا ، وإن لم يقم لطخا لم تسمع دعواه . وإن ادعت الزوجة الطلاق فلم يقر ولم ينكر سجن ، ويحال بينه وبينها ، وتطلق عليه إن طال الأمر لحقها في الوطء ، فإن ادعت النكاح سجن ، حتى يقر أو ينكر وإن ادعى عليها نكاحا فلم تقر ولم تنكر ; حيل بينها وبينه حتى تقر أو ينكر ، وكذلك السيد يدعي عليه عبد العتق ، يسجن حتى يقر أو ينكر ، وإذا لفظ أحدهما بما ينفع الآخر فأغفل منفعته فيه ، فعلى الحاكم أن يقول لقائل ذلك : يلزمك على قولك كذا ، ولا يقول لخصمه : قل له كذا ، لأنه تعليم أحد الخصمين بالعناية له يوهن الآخر ، وليس كقوله له : يلزمك كذا ، لا حجة لك في قولك ، فإذا لم يبق لأحدهما حجة ، فإن قال : بقيت لي حجة ، قال محمد : إن كان من طريق العدد ضرب له أجلا ليس بالبعيد ، وإذا ادعى حجة قوية في دار في يديه أمهله الشهرين والثلاثة .

                                                                                                                [ ص: 71 ] تمهيد : وفي كتاب ابن سحنون وغيره كتاب عمر _ رضي الله عنه _ لأبي موسى الأشعري ، في فصول القضاء ، ينبغي أن يحفظ أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ، سلام عليك . أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك الخصم بحجته فاقض إذا فهمت وانفذ إذا قضيت ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، وإذا عرفت أهل الشغب والإلداد فأنكر وغير ، فإنه من لم يزع الناس عن الباطل ، لم يحملهم على الحق ، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك ، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق ، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) وقاتل هواك كما تقاتل عدوك ، واركب الحق غير مضار عليه ، وإذا رأيت من الخصم العي والغباوة فسدد فهمه ، وبصره في غير ميل معه ، ولا جور على صاحبه ، وشاور أهل الرأي من جلسائك وإخوانك ) الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة ، ثم اعرف الأشباه والأمثال ، وقس الأمر عند ذلك ، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق ( فيما ترى ) واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه ، فإن أحضر بينته أخذت له [ ص: 72 ] حقه ، وإلا استحللت عليه القضاء ، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ، المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا محدودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب ، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات ( والأيمان ) وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم ، والتنكر عند الخصومات ، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ، ويحسن عليه الذخر - ويروى : الذكر - لمن صحت نيته ، وأقبل على نفسه ، كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تخلق للناس مما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله ، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام . فهذا الكتاب جمع أكثر أدب القضاء وأحكامه .

                                                                                                                فوائد : هذه ولاية نبين تقليدها ، واللفظ المفيد الولاية شرعا ، وما معنى الإدلاء ، وما الفرق بين التنفيذ والحكم ؟ وما معنى : الحق قديم ؟ وما معنى : اركب الحق غير مضار عليه ؟ وكيف جعل المسلمين عدولا من غير كشف ، واكتفى بالعدالة الظاهرة كما قاله ( ح ) ؟ وما معنى النهي عن التنكير عند الخصومات ؟ وما معنى : من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه ، شانه الله ، وما الجمع بينه وبين قول أبي موسى الأشعري : إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ؟ والجواب عن الأول من وجهتين : لعل عقد الولاية تقدم ، وهذا للوصية [ ص: 73 ] فقط أو في ألفاظه ما يقوم مقام عقد الولاية ، وهو قوله : إذا أدلى إليك ، وقوله : استحللت عليه القضية ، ونحو ذلك .

                                                                                                                وعن الثاني : معناه : أوصل إليه حجته ، ومنه قوله تعالى : ( فأدلى دلوه ) أي أوصله لغير .

                                                                                                                وعن الثالث : أن إظهار الحجة الشرعية وكمال النظر فيها ، وإثبات وترتيب مقتضاها عليها من اعتقاده الاستحقاق وتصريحه بتلك حكم ، وإلزام الخصم وقهره لرفع الحق تنفيذ ، فهذا هو الفرق بين الإثبات والحكم والتنفيذ .

                                                                                                                وعن الرابع :

                                                                                                                أن الحق ها هنا حكم الله ، وهو كلامه النفساني ، وهو قديم ، وفيه إشارة إلى أن المصيب لذلك أحكم ، ففيه حض على بذل الجهد في طلب ذلك الحكم المعين ، أو يكون كلامه إشارة إلى أن بذل الجهد في طلب الحق وهو ما زال في جميع ، فهو قديم بمعنى طول المدة لا بمعنى انتفاء الأولية .

                                                                                                                وعن الخامس :

                                                                                                                أن معناه : أن يتمكن من الحق بانشراح صدر وطيب نفس ، سالما عن شغب الأهواء ، فإن الركوب يعبر به عن التمكن ، ومن كان ينازعه هواه ويكاد يغلبه الهوى ، فهو مضار في سلوك الحق ، فعلامة إشارة إلى توفير العزم .

                                                                                                                وعن السادس من وجهين : أحدهما أن ذلك مذهبه فأخبر به ، لا أنه أمر به ، وثانيهما : أن المسلمين عدول بعد الكشف بخلاف الكفار ، وقيل : إنما قيل ذلك في عصر الصحابة حيث يغلب الخير ، فيلحق النادر بالغالب ، وأما اليوم فغلب الشر ، فيلحق الغالب بالنادر فينعكس الحال .

                                                                                                                وعن السابع :

                                                                                                                أن التنكر المراد به : الغضب الملهي عن الفكر .

                                                                                                                [ ص: 74 ] وعن الثامن : أنه محمول على إظهار الطاعات والباطن بخلافه ، وكلام أبي موسى محمول على المدارة بالكلام ، والأمور المباحة دفعا للشرور واستجلابا للمصالح ، ووافقنا الأئمة على ما تقدم في هذا الأدب .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية