الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1446 [ ص: 253 ] حديث خامس لسهيل

مالك ، عن سهيل بن أبي صالح السمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن سعد بن عبادة ، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : نعم .

التالي السابق


قال أبو عمر :

في هذا الحديث : النهي عن قتل من هذه حاله تعظيما للدم ، وخوفا من التطرق إلى إراقة دماء المسلمين ، بغير ما أمرنا الله به من البينات ، أو الإقرار الذي يقام عليه ، وسدا لباب الافتيات على السلطان في الحدود التي جعلت في الشريعة إليه ، وأمر فيها بإقامة الحق على الوجوه التي ورد التوقيف بها ، وقد مضى في غير موضع من كتابنا هذا ذكرها .

وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لو أعطي قوم بدعواهم ، لادعى أقوام دماء أقوام وأموالهم .

وروى مالك رحمه الله ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلا من أهل الشام يدعى ابن خيبري وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما ، فأشكل على معاوية القضاء فيه ، فكتب إلى أبي موسى الأشعري ، يسأل له علي [ ص: 254 ] بن أبي طالب ، فسأل أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب ، فقال له علي بن أبي طالب : إن هذا لشيء ما هو بأرضي ، عزمت عليك لتخبرني ، فقال أبو موسى : كتب إلى معاوية بن أبي سفيان ، أسألك عن ذلك ، فقال علي : أنا أبو الحسن ، إن لم يأت بأربعة شهداء ، فليعط برمته .

فأدخل مالك في موطئه قول علي هذا ، فأخذ حديثه المسند عن سهيل تفسيرا له ، وكشفا عن معناه ، وعملا به ، ولم يزد على ذلك في بابه ، وهو كاف على ما وصفنا ، وعلى ذلك جمهور العلماء .

وزعم أبو بكر البزار أن مالكا انفرد بحديثه عن سهيل ، في هذا الباب ، وأنه لم يروه غيره ، ولا تابعه أحد عليه ، وأظنه لما رأى حماد بن سلمة قد أرسله وأسنده مالك ، ظن أنه انفرد به ، وليس كما ظن البزار .

وقد رواه سليمان بن بلال ، عن سهيل - مسندا - عن أبيه ، عن أبي هريرة ، كما رواه مالك .

ورواه الدراوردي أيضا ، عن سهيل بإسناده نحو رواية سليمان بن بلال .

حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، قال : حدثني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو وجدت رجلا مع أهلي لم أقتله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، قال : لا ، والذي بعثك بالحق ، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور ولأنا أغير منه ، والله أغير مني .

[ ص: 255 ] قال أبو عمر :

فهذا سليمان بن بلال قد رواه مسندا ، كما رواه مالك ، ولو لم يروه مالك ، كما زعم البزار ما كان في ذلك شيء ، لكن أكثر السنن والأحاديث قد انفرد بها الثقات ، وليس ذلك بضائر لها ، ولا لشيء منها ، والمعنى الموجود في هذا الحديث مجتمع عليه قد نطق به الكتاب المحكم ، وقد وردت به السنة الثابتة ، واجتمعت عليه الأمة ، فأي انفراد في هذا ؟ وليت كل ما انفرد به المحدثون كان مثل هذا .

وذكر مسلم بن الحجاج ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة الأنصاري ، قال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ، قال سعد : بلى ، والذي أكرمك بالحق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم .

وذكر مسلم أيضا حديث مالك ، وحديث سليمان بن بلال ، عن سهيل ، على حسبما ذكرناهما هاهنا .

وأما حديث حماد بن سلمة ، فأخبرناه خلف بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا الحسن بن عبد الله البالسي ، قال : حدثنا الهيثم بن جميل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عن سعد بن عبادة ، أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت لو رأيت رجلا مع امرأتي لأتركه حتى أدعو أربعة من الشهداء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، فقال : والذي أنزل عليك الكتاب إذا لأعجلته بالسيف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن سعدا لغيور ، وإني لأغير منه ، وإن الله لأغير منا .

[ ص: 256 ] قال أبو عمر :

يريد - والله أعلم - أن الغيرة لا تبيح للغيور ما حرم عليه ، وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله ، وأن لا يتعدى حدوده ، فالله ورسوله أغير .

ولا خلاف علمته بين العلماء فيمن قتل رجلا ثم ادعى أنه إنما قتله ، لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها ، ونحو ذلك من وجوه زناه بها ، ولم يعلم ما ذكر عنه إلا بدعواه ، أنه لا يقبل منه ما ادعاه ، وأنه يقتل به إلا أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطئه لها وإيلاجه فيها ، ويكون مع ذلك محصنا مسلما بالغا أو من يحل دمه بذلك ، فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا ، وإلا قتل ، وهذا أمر واضح ، لو لم يجئ به الخبر ، لأوجبه النظر ; لأن الله حرم دماء المسلمين تحريما مطلقا ، فمن ثبت عليه أنه قتل مسلما فادعى أن المسلم قد كان يجب قتله ، لم يقبل منه رفعه القصاص عن نفسه ، حتى يتبين ما ذكر ، وهكذا كل من لزمه حق لآدمي ، لم يقبل قوله في المخرج منه إلا ببينة تشهد له بذلك .

وفي حديث مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي ، في قصة ابن خيبري الذي قدمنا بيان ما وصفنا ، وقد رواه ، عن يحيى بن سعيد ، كما رواه مالك سواء ، معمر والثوري وابن جريج ، ذكره عبد الرزاق عنهم ، وذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : رجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا ، إلا بالبينة ، فقال سعد بن عبادة : وأي بينة أبين من السيف ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا تسمعون ما يقول سيدكم ، قالوا : لا تلمه يا رسول الله ، فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة قط فاستطاع أحد منا أن يتزوجها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يأبى الله إلا بالبينة .

[ ص: 257 ] قال : وأخبرنا معمر ، عن كثير بن زياد ، عن الحسن ، في الرجل يجد مع امرأته رجلا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كفى بالسيف شا - يريد أن يقول شاهدا فلم يتم الكلمة - قال : إذا تتابع فيه السكران والغيران . فسر أبو عبيد التتابع ، قال : التهافت فعل الشيء بغير تثبت .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) ، قال سعد بن عبادة : أي لكع إن تفخذها رجل ، فذهبت أن أجمع الشهداء لم أجمعهم حتى يقضي حاجته ؟ فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تسمعون إلى قول سيدكم ، وذكر معنى حديث ابن شهاب إلى آخره ، وقال : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا إلا بالبينة التي ذكر الله .

وقد روى أهل العراق في هذه المسألة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه أهدر دمه ، ولم يصح ، وإنما يصح عن عمر أنه أهدر دم الذي أراد اغتصاب الجارية الهذلية نفسها ، فرمته بحجر ففضت كبده فمات ، فارتفعوا إلى عمر ، فقال : ذلك قتيل الله ، والله لا يودى أبدا ، ذكره معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد ، عن عبيد بن عمير ، قال الزهري : ثم قضت القضاة بعد بأن يودى .

قال أبو عمر :

ففي هذا جاء عن عمر أنه أهدر دمه ، لأنها دفعته ، عن نفسها ، فأتى دفعها على روحه ، لا في الذي وجد مع امرأته رجلا .

وقد روى الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن هانئ بن حرام ، أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما ، فكتب عمر بكتاب في العلانية أن أقيدوه ، وكتابا [ ص: 258 ] في السر أن أعطوه الدية .

وهذا لا يصح مثله عن عمر - والله أعلم - ولم تكن في أخلاقه المداهنة في دين الله .

وقد روى هذا الحديث قبيصة بن عقبة ، عن الثوري ، عن المغيرة بن النعمان ، عن مالك بن أنس ، عن هانئ بن حزام . وهانئ بن حزام أو حرام مجهول ، وحديثه هذا لا حجة فيه لضعفه .

وذكر وكيع ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : كان رجلان أخوان من الأنصار ، يقال لأحدهما أشعث ، فغزا في جيش من جيوش المسلمين ، قال : فقالت امرأة أخيه لأخيه : هل لك في امرأة أخيك معها رجل يحدثها ؟ فصعد فأشرف عليه - وهو معها على فراشها وهي تنتف له دجاجة - وهو يقول :


وأشعث غره الإسلام مني خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على حسناياها ويمسى
على دهماء لاحقة الحزام كأن مواضع الربلات منها
فئام قد جمعن إلى فئام

قال : فوثب إليه الرجل ، فضربه بالسيف حتى قتله ، ثم ألقاه ، فأصبح قتيلا بالمدينة ، فقال عمر : أنشد الله رجلا كان عنده من هو أعلم إلا قام به ، فقام رجل فأخبره بالقصة ، فقال : سحقا وبعدا .

قال أبو عمر :

هذا خبر منقطع ، وليس فيه شهادة قاطعة على معاينة القتل ، ولا إقرار القاتل ، فلا حجة فيه ، وقد روى هذا الخبر ابن جريج ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، فجعله في غير هذه القصة ، وأنشد الأبيات :

[ ص: 259 ]

وأشعث غره الإسلام مني لهوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويطوي على حمراء مائلة الحزام
كأن مواضع الربلات منها فئام يرجعون إلى فئام

وقد ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أنه كان ينكر أن يكون عمر أهدر دمه إلا بالبينة .

قال ابن جريج : وقال عطاء : لا إلا بالبينة .

وقد جاء عن عمر في رجل وجد رجلا في داره ملفوفا في حصير بعد العتمة ، أنه ضربه مائة جلدة .

وأصح ما في هذا ما قاله علي - رضي الله عنه - إن لم يأت بأربعة شهداء ، فليعط برمته . وهو معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله في ذلك : لا إلا بالبينة ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ، وقد قال ابن القاسم في هذه المسألة : لو كان المقتول بكرا حده الجلد فقتله ، ثم أتى بأربعة شهداء أنهم رأوا ذلك ، كالمرود في المكحلة ، قال ابن القاسم : يستحب في هذا أن تكون الدية على القاتل في ماله يؤديها إلى أولياء المقتول ، وغيره يرى عليه في ذلك القود ; لأنه قتل من لم يجب عليه القتل .

وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، قال : إذا قطع رجل يد السارق ، أو قتل الزاني ، قبل أن يبلغ السلطان ، فعليه القصاص ، وليس على الزاني والسارق غير ذلك ، قد أخذ منهما الذي كان عليهما ، قال : وإذا قتل المرتد قبل رفعه إلى السلطان ، فليس على قاتله شيء .

وقال معمر عن الزهري فيمن افتات على السلطان في حد ، عليه العقوبة ولا يقتل .

[ ص: 260 ] قال أبو عمر :

قول مالك وأصحابه وأكثر الفقهاء في هذا كقول الزهري ، وليس هذا الباب موضع ذكر هذه المسألة ، وقد ذكرنا منها ما فيه - والحمد لله - كفاية وشفاء ، وقد مضى القول في أحكام اللعان ممهدا في باب ابن شهاب ، وباب نافع من هذا الكتاب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية