الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال : ولما قال : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة علله بقوله : ذلك أدنى ألا تعولوا [ ص: 286 ] أي أقرب من عدم الجور ، والظلم ، فجعل البعد من الجور سببا في التشريع وهذا مؤكد لاشتراط العدل ، ووجوب تحريه ، ومنبه إلى أن العدل عزيز . وقد قال - تعالى - في آية أخرى من هذه السورة : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [ 4 : 129 ] وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدد بوجه ما ، ولما كان يظهر وجه قوله بعد ما تقدم من الآية : فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة والله يغفر للعبد ما لا يدخل تحت طاقته من ميل قلبه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يميل في آخر عهده إلى عائشة أكثر من سائر نسائه ، ولكنه لا يخصها بشيء دونهن . أي بغير رضاهن وإذنهن ، وكان يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك أي من ميل القلب .

                          قال : فمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل ، والأمن من الجور . وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات ، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ، ولا يقوم فيه نظام ، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو ، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة .

                          قال : كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب ، والصهر الذي تقوى به العصبية ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ; لأن الدين كان متمكنا في نفوس النساء ، والرجال ، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها . أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده إلى سائر أقاربه ، فهي تغري بينهم العداوة ، والبغضاء : تغري ولدها بعداوة إخوته ، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد في العائلة كلها ، ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين ، فمنها : السرقة ، والزنا ، والكذب ، والخيانة ، والجبن ، والتزوير ، بل منها القتل ، حتى قتل الولد والده ، والوالد ولده ، والزوجة زوجها ، والزوج زوجته ، كل ذلك واقع ثابت في المحاكم ; وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولد ، وهي جاهلة بنفسها ، وجاهلة بدينها ، لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها يتبرأ منها كل كتاب منزل ، وكل نبي مرسل ، فلو تربى النساء تربية دينية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان الأعلى ، على قلوبهن بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة لما كان هنالك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات ، وإنما كان يكون ضرره قاصرا عليهن في الغالب . أما والأمر على ما نرى ، ونسمع فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، [ ص: 287 ] فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر ، وعلى مذهبهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس ، وخيرهم ، وأن من أصوله منع الضرر ، والضرار ، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فشك في وجوب تغير الحكم ، وتطبيقه على الحال الحاضرة : يعني على قاعدة ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) . قال : وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعا عند الخوف من عدم العدل .

                          هذا قاله الأستاذ الإمام في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية ، ثم قال في الدرس الثاني : تقدم أن إباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأزواج . وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة ، ولا يفهم منه كما فهم بعض المجاورين أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلا ، أو فاسدا ، فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد ، فقد يخاف الظلم ، ولا يظلم ، ثم يتوب فيعدل فيعيش عيشة حلالا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية