الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقد أطنب الرازي في تقرير دلالة الآية على الحصر وكونها محكمة باقية على عمومها ودفع ما أوردوه عليها ، وزاد على ما بيناه من كون التحريم لا يعرف إلا من الوحي ، وكون الوحي قرر هذا الحصر ، وأكد آية الأنعام فيه بآيتي النحل والبقرة - أن جعل آية أول المائدة مؤكدة لتقريره في قوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) مع [ ص: 143 ] إجماع المفسرين على المراد بهذا الاستثناء قوله بعد آية أخرى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) إلخ . ( قال ) : فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر .

                          وأقول : إننا ما تركنا ذكر آية المائدة فيما كتبنا قبل مراجعة كلامه نسيانا لها ، بل لأنه لم يخطر في بالنا حينئذ من معناها إلا المشهور في تفسير بهيمة الأنعام وهو أن المراد بها نفس الأنعام ; لأن الإضافة فيها من قبيل شجر الأراك أو بمعنى البهيمة المشابهة للأنعام ، قالوا : أي في الاجترار وعدم الأنياب كالظباء وبقر الوحش وهو لم يزد على هذا في تفسير الإضافة ، وبعد مراجعة كلامه تذكرنا أننا قد اخترنا في تفسيرها أن المراد بالتشبيه كونها من الطيبات ، أي ما يستطيبه الناس في مجموعهم وإن عافه أفراد أو طوائف منهم ، فقد عاف النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ولم يحرمه كما ثبت في حديث خالد بن الوليد المتفق عليه وغيره ; وبهذا تكون آية المائدة مؤيدة للحصر في الآيات الثلاث ، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه أن سورة المائدة آخر السور نزولا ، وأنه ليس فيها منسوخ ، فكل ما خالف حكما من أحكامها فهو المنسوخ بما فيها ; إذ كان نزولها في حجة الوداع من السنة العاشرة ، والنهي عن الحمر الأهلية والسباع كان في غزوة خيبر سنة سبع كما تقدم ، فإن جاز أن يكون مخصصا لعموم آية البقرة - إن صح أنه بعدها وأن المقام مقام التخصيص لا الن‍سخ - تكون آية المائدة ناسخة له لأنها متأخرة حتما .

                          والأرجح المختار عندنا : أن كل ما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير الأنواع الأربعة التي حصرت الآيات محرمات الطعام فيها ، فهو إما للكراهة وإما مؤقت لعلة عارضة كما تقدم في الحمير ، وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصا في القرآن ، بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم صلى الله عليه وسلم شيئا جاء نص القرآن المؤكد بحله . واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) . . . . . فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خبيثة من الخبائث " فقال ابن عمر : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال اهـ . فقوله : " إن كان " مشعر بشكه فيه ، وأنه إن فرض أنه قاله وجب قبوله لأن الله أمر باتباعه ، ولكن بمعنى أنه خبيث غير محرم كالثوم والبصل . على أن الحديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام . ويكثر في أحاديث أبي هريرة الرواية بالمعنى والإرسال ، لأن الكثير [ ص: 144 ] منها قد سمعه من الصحابة وكذا من بعض التابعين لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا تكثر فيها العنعنة .

                          وذهب بعض أئمة الفقه إلى تحريم ما ثبت في الأحاديث الأمر بقتله لضرره كالحية والعقرب والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور وهن الفواسق الخمس ، وكذا الحدأة والوزغ ، أو النهي عن قتله كالنمل والنحل والهدهد والصرد والضفدع والصواب ما عليه الجمهور من عدم دلالة الأمر بالنهي في هذا المقام على تحريم الأكل ; إذ الأمر بقتل الحيوان الضار لاتقاء ضرره لا ينافي جواز قتله لأجل الانتفاع به بالأكل ولا بغيره ولو لم تدل الدلائل العامة القطعية على إباحة ذلك ، فكيف وقد دلت ! وكذلك النهي عن قتله عبثا أو لغرض غير شرعي لا ينافي جواز قتله للانتفاع به بالأكل وغيره ، ومن أصول الشريعة القطعية المجمع عليها حظر تعذيب الحيوان والتمثيل به ، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن ابن عمر مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال : من فعل هذا ؟ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا . والغرض بالتحريك ما ينصبه الرماة ويرمون إليه للتمرن على الإصابة بالسهام والرصاص ونحوه . وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب في الوجه وعن الوسم فيه ، وأنه مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال : " لعن الله الذي وسمه " وفي سنن النسائي وصحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول : يارب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة " وروى النسائي أيضا والحاكم وصححه مرفوعا " ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة " قيل : يا رسول الله وما حقها ؟ قال " يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها " والأحاديث في الرفق بالحيوان ودفع الأذى عنه - دع ترك إيقاعه به - كثيرة في الصحاح والسنن ، ومنها في الصحيحين حديث المرأة التي عذبها الله في النار بحبس الهرة حتى ماتت ، وحديث البغي ( المومس ) التي غفر الله لها إذ رحمت كلبا عطشان بإخراج الماء من البئر بنعلها حتى سقته . ولا بد لكل نهي خاص عن قتل حيوان معين من سبب خاص أو عام ، فالعام كتعود الناس قتل بعض الحشرات احتقارا لها بأدنى سبب كقتل النحل إذا وقع على العسل أو السكر وكذا النمل ، والخاص كالذي قاله [ ص: 145 ] أبو بكر بن العربي وغيره في سبب النهي عن قتل الصرد وهو أن العرب كانت تتشاءم به فنهي عن قتله ليزول ما في قلوبهم من اعتقاد التشاؤم .

                          وأقول : إن الهدهد - وهو معروف - يأكل الحشرات الضارة بالزرع والشجر فالظاهر أن هذا هو سبب النهي عن قتله ، كما تنهى الحكومة المصرية عن قتله وصيده لأجل ذلك . وحديث حظر قتل الضفدع لجعله دواء معارض بالقاعدة العامة القطعية في إباحة المنافع وبمفهوم حديث جابر في قتل العصفور عبثا وهو أصح منه .

                          وجعل الأمر بقتل الحيوان والنهي عنه واستخباث العرب إياه دلائل على تحريم أكله هو مذهب الشافعية والزيدية قال المهدي ( من أئمة الزيدية في كتابه البحر ) : أصول التحريم إما بنص الكتاب أو السنة أو الأمر بقتله كالخمسة ( أي الفواسق الخمس التي ورد إباحة قتلها في الحل والحرم ) أو النهي عن قتله كالهدهد والخطاف والنحلة والنملة والصرد - أو استخباث العرب إياه كالخنفساء والضفدع . . . لقوله تعالى : ( ويحرم عليهم الخبائث ) ( 7 : 157 ) وهي مستخبثة عندهم ، والقرآن نزل بلغتهم فكان استخباثهم طريق تحريم فإن استخبثه البعض اعتبر الأكثر والعبرة باستطابة أهل السعة لا ذوي الفاقة اهـ . ونحوه قول النووي في المنهاج : وما لا نص فيه إن استطابه أهل يسار وطباع سليمة من العرب في حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا . . . . واشترط شراحه أن يكونوا حضرا لا بدوا .

                          ونقول : أما الأمر بالقتل والنهي عنه فقد علمت ما فيه . وأما استخباث العرب إياه فقد رده المخالفون له من الحنفية وكذا بعض الشافعية ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن ما ملخصه : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر استخباث العرب في تحريم ذي الناب من السباع والمخلب من الطير بل كونها كذلك ، وإن الخطاب بتحريم الخبائث لم يختص بالعرب ، فاعتبار ما تستقذره لا دليل عليه . ثم إنه إن اعتبر استقذار جميع العرب فجميعهم لم يستقذروا الحيات والعقارب والأسد والذئب والفأر ، بل الأعراب يستطيبون هذه الأشياء ، وإن اعتبر بعضهم ففيه أمران ( أحدهما ) أن الخطاب لجميعهم فكيف يعتبر بعضهم . ( وثانيهما ) لم كان البعض المستقذر أولى من اعتبار البعض المستطيب ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية