الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام .

والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو ( يا أيها النبيء ) ، أو تلطف وتقرب نحو : يا بني ويا أبت ، أو قصد تهكم نحو وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون فإذا نودي [ ص: 256 ] المنادى بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته ، ومنه قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه قم أبا تراب وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق قم يا نومان وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رآه حاملا هرة صغيرة في كمه ( يا أبا هريرة ) .

فنداء النبيء بـ ( يا أيها المزمل ) نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى ( يا أيها المدثر ) .

والمزمل : اسم فاعل من تزمل ، إذا تلفف بثوبه كالمقرور ، أو مريد النوم ، وهو مثل التدثر في مآل المعنى ، وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق ، فالتزمل مشتق من معنى التلفف ، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ . وأصل التزمل مشتق من الزمل ، بفتح فسكون ، وهو الإخفاء ، ولا يعرف لـ ( تزمل ) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل ، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس ، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس ، فمنه التزمل ومنه التعمم والتأزر والتقمص ، وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل : ارتدى وائتزر .

وأصل المزمل : المتزمل ، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقاربهما .

وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين : إنه التزمل الذي جرى في قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - " زملوني زملوني " حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه اقرأ باسم ربك الآيات ، كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من صحيح البخاري وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ ، وعليه فهو حقيقة .

وقيل هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال : لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه - أي : صفوه وصفا تتفق عليه الناس - فقالوا : كاهن ، وقالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، فصدر المشركون على وصفه بـ ( ساحر ) فبلغ ذلك النبيء - صلى الله عليه وسلم - فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر ، فأتاه جبريل فقال ( يا أيها المزمل ) ( يا أيها المدثر ) .

وسيأتي في سورة المدثر : أن سبب نزولها رؤيته الملك جالسا على كرسي بين [ ص: 257 ] السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال " دثروني " فيتعين أن سبب ندائه بـ يا أيها المزمل كان عند قوله " زملوني " فذلك عندما اغتم من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه بـ ( يا أيها المدثر ) في سورة المدثر .

وقيل : هو تزمل للاستعداد للصلاة فنودي يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا وهذا مروي عن قتادة . وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة .

ومحملها على أن التزمل حقيقة ، وقال عكرمة : معناه زملت هذا الأمر فقم به ، يريد أمر النبوءة فيكون قوله الليل إلا قليلا مع قوله إن لك في النهار سبحا طويلا تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلا قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه . ومحمل التزمل عنده على المجاز .

فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة ( اقرأ باسم ربك ) ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا : إنه مجنون .

أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل ، ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه يا أيها المدثر .

فنداء النبيء - صلى الله عليه وسلم - بوصف المزمل باعتبار حالته وقت ندائه وليس المزمل معدودا من أسماء النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، قال السهيلي : ولم يعرف به ، وذهب بعض الناس إلى عده من أسمائه .

وفعل ( قم ) منزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق ؛ لأن القيام مراد به الصلاة ، فهذا القيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله ( قم فأنذر ) فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك .

والليل : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر . وانتصب الليل على [ ص: 258 ] الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل ، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإنسان .

وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما .

وأمر الرسول بقيام الليل أمر إيجاب وهو خاص به ؛ لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة ، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في قوله تعالى : إن ربك يعلم أنك تقوم إلى قوله : وطائفة من الذين معك الآيات ، قال الجمهور : وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم قال اقرأ باسم ربك الحديث ، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا .

وقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى ، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة ، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة .

وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شئون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، أي : زيادة قرب لك . وقد تقدم في سورة الإسراء . فكان هذا حكما خاصا بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس . وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرهم على ذلك فكانوا يرونه لزاما عليهم ، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل الآية ، قالت عائشة : إن الله افترض [ ص: 259 ] قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبيء وأصحابه ، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين . وتقرر أنه مندوب فيه . واختلف في استمرار وجوبه على النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه .

وقوله إلا قليلا استثناء من الليل أي : إلا قليلا منه ، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها .

و ( نصفه ) بدل من ( قليلا ) بدلا مطابقا وهو تبيين لإجمال ( قليلا ) فجعل القليل هنا النصف أو أقل منه بقليل .

وفائدة هذا الإجمال الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل وأن جعله نصف الليل رحمة ورخصة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ويدل لذلك تعقيبه بقوله أو انقص منه قليلا أي : انقص من النصف قليلا ، فيكون زمن قيام الليل أقل من نصفه ، وهو حينئذ قليل فهو رخصة في الرخصة .

وقال أو زد عليه وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ، ولذلك لم يقيد ( وزد عليه ) بمثل ما قيد به أو انقص منه لتكون الزيادة على النصف متسعة ، وقد ورد في الحديث أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه ، وقيل له في ذلك : إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : أفلا أكون عبدا شكورا .

والتخيير المستفاد من حرف ( أو ) منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر ؛ لأن لذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم .

وبعد ، فذلك توسيع على النبيء - صلى الله عليه وسلم - لرفع حرج تحديده لزمن القيام ، فسلك به مسلك التقريب .

وجعل ابن عطية الليل اسم جنس يصدق على جميع الليالي ، وأن المعنى : إلا قليلا من الليالي ، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها ، أي : هو استثناء من الليالي باعتبار جزئياتها لا باعتبار الأجزاء ، ثم قال ( نصفه ) إلى آخره .

وتخصيص الليل بالصلاة فيه ؛ لأنه وقت النوم عادة ، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله ، ولأن الليل وقت سكون [ ص: 260 ] الأصوات واشتغال الناس ، فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني .

التالي السابق


الخدمات العلمية