الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5024 قالت زينب وسمعت أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول قال حميد فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره سئل مالك ما تفتض به قال تمسح به جلدها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( قالت زينب وسمعت أم سلمة ) هو موصول بالإسناد المذكور وهو الحديث الثالث ، ووقع في الموطأ " سمعت أمي أم سلمة " زاد عبد الرزاق عن مالك " بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( جاءت امرأة ) زاد النسائي من طريق الليث عن حميد بن نافع " من قريش " وسماها ابن وهب في موطئه ، وأخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه من طريق عاتكة بنت نعيم بن عبد الله أخرجه ابن وهب " عن أبي الأسود النوفلي عن القاسم بن محمد عن زينب عن أمها أم سلمة أن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله أتت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي توفي عنها زوجها وكانت تحت المغيرة المخزومي وهي تحد وتشتكي عينها " الحديث ، وهكذا أخرجه الطبراني من رواية عمران بن هارون الرملي عن ابن لهيعة لكنه قال " بنت نعيم " ولم يسمها ، وأخرجه ابن منده في " المعرفة " من طريق عثمان بن صالح " عن عبد الله بن عقبة عن محمد بن عبد الرحمن عن حميد بن نافع عن زينب عن أمها عن عاتكة بنت نعيم أخت عبد الله بن نعيم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن ابنتها توفي زوجها " الحديث . وعبد الله بن عقبة هو ابن لهيعة نسبه لجده ، ومحمد بن عبد الرحمن هو أبو الأسود ، فإن كان محفوظا فلابن لهيعة طريقان ، ولم تسم البنت التي توفي زوجها ولم تنسب فيما وقفت عليه . وأما المغيرة المخزومي فلم أقف على اسم أبيه ، وقد أغفله ابن منده في الصحابة وكذا أبو موسى في الذيل عليه وكذا ابن عبد البر ، لكن استدركه ابن فتحون عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقد اشتكت عينها ) قال ابن دقيق العيد يجوز فيه وجهان ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل وهي المرأة ورجح هذا ، ووقع في بعض الروايات " عيناها " يعني وهو يرجح الضم وهذه الرواية في مسلم ، وعلى الضم اقتصر النووي وهو الأرجح ، والذي رجح الأول هو المنذري .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أفتكحلها ) بضم الحاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لا ، مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ) في رواية شعبة عن حميد بن نافع فقال " لا تكتحل " قال النووي : فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا . وجاء في حديث أم سلمة في الموطأ وغيره " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " ووجه الجمع أنها إذا لم تحتج إليه لا يحل ، وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه ، فإن فعلت مسحته بالنهار . قال وتأول بعضهم حديث الباب على أنه لم يتحقق الخوف على عينها ، وتعقب بأن في حديث شعبة المذكور " فخشوا على عينها " وفي رواية ابن منده المقدم ذكرها " رمدت رمدا شديدا وقد خشيت على بصرها " وفي رواية الطبراني أنها قالت في المرة الثانية " إنها تشتكي عينها فوق ما يظن ، فقال لا " وفي رواية القاسم بن أصبغ أخرجها ابن حزم " إني أخشى أن تنفقئ عينها ، قال لا وإن انفقأت " وسنده صحيح ، وبمثل ذلك أفتت أسماء بنت عميس أخرجه ابن أبي شيبة ، وبهذا قال مالك في رواية عنه بمنعه مطلقا ، وعنه يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه ، وبه قال الشافعية مقيدا بالليل ، وأجابوا عن قصة المرأة باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير الكحل كالتضميد بالصبر ونحوه ، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن صفية بنت أبي عبيد أنها أحدت على ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها تزيغان فكانت تقطر فيهما الصبر ، ومنهم [ ص: 399 ] من تأول النهي على كحل مخصوص وهو ما يقتضي التزين به لأن محض التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه فلم ينحصر فيما فيه زينة . وقالت طائفة من العلماء : يجوز ذلك ولو كان فيه طيب ، وحملوا النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إنما هـي أربعة أشهر وعشرا ) كذا في الأصل بالنصب على حكاية لفظ القرآن ، ولبعضهم بالرفع وهو واضح ، قال ابن دقيق العيد : فيه إشارة إلى تقليل المدة بالنسبة لما كان قبل ذلك وتهوين الصبر عليها ولهذا قال بعده " وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول " وفي التقييد بالجاهلية إشارة إلى أن الحكم في الإسلام صار بخلافه ، وهو كذلك بالنسبة لما وصف من الصنيع ، لكن التقدير بالحول استمر في الإسلام بنص قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ثم نسخت بالآية التي قبل وهي يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قال حميد ) هو ابن نافع راوي الحديث ، وهو موصول بالإسناد المبدوء به .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فقلت لزينب ) هي بنت أبي سلمة ( وما ترمي بالبعرة ) ؟ أي بيني لي المراد بهذا الكلام الذي خوطبت به هذه المرأة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا إلخ ) هكذا في هذه الرواية لم تسنده زينب ، ووقع في رواية شعبة في الباب الذي يليه مرفوعا كله لكنه باختصار ولفظه " فقال لا تكتحل ، قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها ، فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة ، فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر " وهذا لا يقتضي إدراج رواية الباب لأن شعبة من أحفظ الناس فلا يقضي على روايته برواية غيره بالاحتمال ، ولعل الموقوف ما في رواية الباب من الزيادة التي ليست في رواية شعبة . والحفش بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة فسره أبو داود في روايته من طريق مالك : البيت الصغير ، وعند النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك : الحفش الخص بضم المعجمة بعدها مهملة ، وهو أخص من الذي قبله . وقال الشافعي : الحفش البيت الذليل الشعث البناء ، وقيل هو شيء من خوص يشبه القفة تجمع فيه المعتدة متاعها من غزل أو نحوه ، وظاهر سياق القصة يأبى هذا خصوصا رواية شعبة ، وكذا وقع في رواية للنسائي " عمدت إلى شر بيت لها فجلست فيه " ولعل أصل الحفش ما ذكر ثم استعمل في البيت الصغير الحقير على طريق الاستعارة ، والأحلاس في رواية شعبة بمهملتين جمع حلس بكسر ثم سكون وهو الثوب أو الكساء الرقيق يكون تحت البرذعة ، والمراد أن الراوي شك في أي اللفظين وقع وصف ثيابها أو وصف مكانها ، وقد ذكرا معا في رواية الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حتى يمر بها ) في رواية الكشميهني " لها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم تؤتى بدابة ) بالتنوين ( حمار ) بالجر والتنوين على البدل ، وقوله " أو شاة أو طائر " للتنويع لا للشك ، وإطلاق الدابة على ما ذكر هو بطريق الحقيقة اللغوية لا العرفية .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فتفتض ) بفاء ثم مثناة ثم ضاد معجمة ثقيلة ; فسره مالك في آخر الحديث فقال : تمسح به جلدها ، وأصل الفض الكسر أي تكسر ما كانت فيه وتخرج منه بما تفعله بالدابة . ووقع في رواية للنسائي " تقبص " بقاف ثم موحدة ثم مهملة خفيفة ، وهي رواية الشافعي ، والقبص الأخذ بأطراف الأنامل ، قال الأصبهاني وابن الأثير : هو كناية عن الإسراع ، أي تذهب بعدو وسرعة إلى منزل أبويها لكثرة حيائها لقبح منظرها [ ص: 400 ] أو لشدة شوقها إلى التزويج لبعد عهدها به . والباء في قولها " به " سببية ، والضبط الأول أشهر . قال ابن قتيبة : سألت الحجازيين عن الافتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش بعدما تفتض به . قلت : وهذا لا يخالف تفسير مالك ، لكنه أخص منه ، لأنه أطلق الجلد وتبين أن المراد به جلد القبل ، وقال ابن وهب : معناه أنها تمسح بيدها على الدابة وعلى ظهره ، وقيل المراد تمسح به ثم تفتض أي تغتسل ، والافتضاض الاغتسال بالماء العذب لإزالة الوسخ وإرادة النقاء حتى تصير بيضاء نقية كالفضة ، ومن ثم قال الأخفش : معناه تتنظف فتنتقي من الوسخ فتشبه الفضة في نقائها وبياضها ، والغرض بذلك الإشارة إلى إهلاك ما هـي فيه ، ومن الرمي الانفصال منه بالكلية .

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " .

                                                                                                                                                                                                        جوز الكرماني أن تكون الباء في قوله " فتفتض به " للتعدية أو تكون زائدة أي تفتض الطائر بأن تكسر بعض أعضائه انتهى . ويرده ما تقدم من تفسير الافتضاض صريحا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم تخرج فتعطى بعرة ) بفتح الموحدة وسكون المهملة ويجوز فتحها .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فترمي بها ) في رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك " ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها " وفي رواية ابن وهب " فترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها " ووقع في رواية شعبة الآتية " فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة " وظاهره أن رميها البعرة يتوقف على مرور الكلب سواء طال زمن انتظار مروره أم قصر ، وبه جزم بعض الشراح . وقيل ترمي بها من عرض من كلب أو غيره تري من حضرها أن مقامها حولا أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبا أو غيره . وقال عياض . يمكن الجمع بأن الكلب إذا مر افتضت به ثم رمت البعرة . قلت : ولا يخفى بعده ، والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا ، فإنه لا منافاة بين الروايتين حتى يحتاج إلى الجمع . واختلف في المراد برمي البعرة فقيل : هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة ، وقيل إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقارا له وتعظيما لحق زوجها ، وقيل بل ترميها على سبيل التفاؤل بعدم عودها إلى مثل ذلك




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية