الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 16 ] وأما الصحة في العبادات فاختلف فيها فقال الفقهاء : هي وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء ، كالصلاة إذا وقعت بجميع واجباتها مع انتفاء موانعها ، فكونها لا يجب قضاؤها هو صحتها .

                                                      وقال المتكلمون : هي موافقة أمر الشارع في ظن المكلف لا في نفس الأمر ، وبه قطع القاضي والإمام في التلخيص " فكل من أمر بعبادة توافق الأمر بفعلها كان قد أتى بها صحيحة وإن اختل شرط من شروطها أو وجد مانع ، وهذا أعم من قول الفقهاء ، لأن كل صحة هي موافقة للأمر ، وليس كل موافقة الأمر صحة عندهم . واصطلاح الفقهاء أنسب ، فإن الآنية متى كانت صحيحة من جميع الجوانب إلا من جانب واحد فهي مكسورة لغة ولا تكون صحيحة حيث يتطرق إليها الخلل من جهة من الجهات ، وهذه الصلاة يتطرق إليها الخلل من جهة ذكر الحدث ، فلا تكون صحيحة بل المستجمع لشروطه في نفس الأمر هو الصحيح . وبنوا على الخلاف صلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين حدثه فإنها صحيحة عند المتكلمين دون الفقهاء .

                                                      قال ابن دقيق العيد : وفي هذا البناء نظر ، لأن هذه الصلاة إنما وافقت الأمر بالعمل بمقتضى الظن الذي تبين فساده ، وليست موافقة الأمر الأصلي الذي توجه التكليف به ابتداء ، فعلى هذا نستفسر ، ونقول : إن أردتم [ ص: 17 ] بالصحيح ما وافق أمرا ما فهذا الفعل صحيح بهذا الاعتبار ، لكنه لا يقتضي أن يكون صحيحا مطلقا لعدم موافقته الأمر الأصلي ، وإن أردتم ما وافق الأمر الأصلي فهذه غير موافقة فلا تكون صحيحة . تنبيهات التنبيه الأول

                                                      ما حكيناه عن الفقهاء من أن الصحة إسقاط القضاء تبعنا فيه الأصوليين لكن كلام الأصحاب مصرح بخلافه ، فإنهم قالوا : في باب صلاة الجماعة في الكلام على شروط الإمامة : وإن كان صلاته صحيحة فإما أن تكون مغنية عن القضاء أو لا إلخ ، فجعلوا الصحيح ينقسم إلى ما يغني وإلى ما لا يغني ، ولم يجعلوه ما لا يغني عن القضاء .

                                                      وحكوا وجهين في صلاة فاقد الطهورين هل توصف بالصحة ؟ والصحيح : نعم واستبعد إمام الحرمين مقابله ، وتابعه النووي مع أنه يجب القضاء على الجديد .

                                                      قالوا : ويجري الخلاف في كل صلاة يجب قضاؤها . وفائدة الخلاف في الأيمان وفي جواز الخروج منها ، ولهذا يقولون : من صحت صلاته في نفسه صحة مغنية عن القضاء جاز الاقتداء به ، وهذا كله تصريح بأن الصحة تجامع القضاء . [ ص: 18 ] التنبيه الثاني

                                                      زعم الغزالي في المستصفى " وتابعه القرافي أن النزاع لفظي . وهو أنه هل تسمى هذه صحيحة أم لا ؟ قال القرافي : لاتفاقهم على ، سائر أحكامها .

                                                      فقالوا : المصلي موافق لأمر الله سبحانه وتعالى مثاب على صلاته وأنه يجب عليه القضاء إذا علم الحدث ، فلم يبق النزاع إلا في التسمية .

                                                      قلت : ونفي الخلاف في القضاء مردود ، فالخلاف ثابت ، وممن حكاه ابن الحاجب في مختصره " في مسألة : الإجزاء الامتثال ، وكأن المتكلمين يقولون : إنها صحيحة ، لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال ، وهي مسقطة للقضاء لو لم يرد نص بالقضاء وإنما وجب بأمر جديد كما حكاه في المستصفى " عنهم ، ووصفهم إياها بالصحة صريح في ذلك ، فإن الصحة هي الغاية من العبادة وعندنا قول مثله فيما إذا صلى بنجس لم يعلمه أو مكشوف العورة ساهيا إنها صحيحة ولا قضاء نظرا لموافقة الأمر حال التلبس .

                                                      وعكس هذه المسألة من صلى خلف الخنثى المشكل ثم تبين أنه رجل

                                                      ، وفرعنا على القول المرجوح أنه لا يجب القضاء فإنها على اصطلاح الفقهاء صحيحة لإسقاط القضاء ، وعندالمتكلمين باطلة ، لأنها ليست موافقة لأمر الشارع .

                                                      وذكر الأصفهاني في شرح المحصول " أن ما يتخرج على هذا الخلاف صلاة من لم يجد ماء ولا ترابا إذا صلى على حسب حاله ، وقلنا بالراجح : إنه يجب عليه الإعادة قال : فتلك الصلاة صحيحة عند المتكلمين فاسدة عند الفقهاء . [ ص: 19 ]

                                                      قلت : فيه وجهان نقلهما إمام الحرمين والمتولي وبنى عليهما ما لو حلف لا يصلي فصلى كذلك ، وقد سبق .

                                                      وفي كلام الأصفهاني نظر ، إذ كيف يؤمر بعبادة هي فاسدة ؟ وبنى ابن الرفعة في المطلب " على الخلاف في تفسير الصحة مسألة : لو تحير المجتهد في الأواني فلم يغلب على ظنه شيء ، فتيمم ، ثم إن كان قبل الصب وجب القضاء ، أو بعده فلا .

                                                      وحكى الماوردي خلافا في وجوب الصب ، ونسب الجمهور عدم الوجوب .

                                                      قال ابن الرفعة : والخلاف يلتفت على أن الصحة ما هي ؟ فإن قلنا : موافقة الأمر لم يلزم الإراقة ، لأن قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا غير واجد له ، إذ الوجود ما يقدر على استعماله ، وإن قلنا : هي ما أسقط القضاء وجب عليه الصب ، لأنه مأمور بالإتيان بالصلاة صحيحة إذا قدر عليها ، وهو قادر هاهنا . ا هـ .

                                                      وهذا يعطي أن الخلاف في تفسير الصحة ثابت عند الفقهاء أيضا وقال الآمدي : ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بما ذكروه في المعاملات من ترتب أحكامها المقصودة منها يعني لأمر مقصود العبادة إقامة رسم التعبد ، وبراءة ذمة العبد منها .

                                                      فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا : إنها كافية في سقوط التعبد ، فتكون صحيحة . [ ص: 20 ] التنبيه الثالث

                                                      قال أبو العباس بن تيمية : لم يرد في لفظ الكتاب والسنة الصحة والفساد ، بل الحق والباطل ، وإنما الصحة اصطلاح الفقهاء . قلت : وورد لفظ الإجزاء كثيرا ، وهو قريب من الصحة ثم إن الجمهور لم يسمحوا بإطلاق الفاسد ، وإنما قالوا : هي صلاة صحيحة أو شبيهة بها ، كإمساك رمضان .

                                                      وقال إمام الحرمين في التلخيص " : إنما صار الفقهاء إلى هذا في أصل ، وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة عندهم ، وهي واقعة على خلاف مقتضى الشريعة ، فدل على أن الصحيح : ما لا يجب قضاؤه ، وإن لم يوافق مقتضى الشرع .

                                                      وذكر غيره التفات الخلاف على أصل وهو أن القضاء هل يجب بالأمر الأول أو لا بد من أمر جديد ؟

                                                      والثاني : قول الفقهاء حكاه عنهم في المنخول " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية