الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5235 (16) باب حديث الجساسة وما فيه من ذكر الدجال

                                                                                              [ 2835 ] عن فاطمة بنت قيس - وكانت من المهاجرات الأول - أنها قالت : نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذ ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة بن زيد ، وكنت قد حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أحبني فليحب أسامة ، فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : أمري بيدك ، فأنكحني من شئت ، فقال : انتقلي إلى أم شريك ، وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ، ينزل عليها الضيفان ، فقلت : سأفعل ، فقال : لا تفعلي ; إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان ، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك ، فيرى القوم منك ما تكرهين ، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم ، وهو رجل من بني فهر ، فهر قريش ، وهو من البطن الذي هي منه ، فانتقلت إليه ، فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي - منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كل إنسان مصلاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر ، حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر ، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت ؟ قالت : أنا الجساسة ، قالوا : وما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير ; فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فلما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة ، قال : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير ، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا ، وأشده وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ما أنت ؟ قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا : نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم ، فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة ، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقلنا : ويلك ما أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة ، قلنا : وما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير ; فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة ، فقال : أخبروني عن نخل بيسان ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم ، قال : أما إنه يوشك أن لا تثمر ، قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء ، قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب ، قال : أخبروني عن عين زغر ، قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا له : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها ، قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ قالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب ، قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم ، قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه ، قال لهم : قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم ، قال : أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه ، وإني مخبركم عني ، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها ، في أربعين ليلة ، غير مكة وطيبة ، فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة - أو : واحدا - منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها ، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها . قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعن بمخصرته في المنبر : هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة (يعني المدينة) ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ فقال الناس : نعم ; فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ، ما هو ، وأومأ بيده إلى المشرق ، قالت : فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                              وفي رواية: أن الشعبي سأل فاطمة بنت قيس عن المطلقة ثلاثا ، أين تعتد ؟ قالت : طلقني بعلي ثلاثا ، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي ، قالت : فنودي في الناس : الصلاة جامعة ، قالت : فانطلقت فيمن انطلق من الناس ، قالت : فكنت في الصف المقدم من النساء ، وهو يلي المؤخر من الرجال ، قالت : فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب ، وذكره وزاد فيه : قالت : وكأنما أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهوى بمخصرته إلى الأرض وقال : هذه طيبة ، يعني المدينة .


                                                                                              رواه أحمد (6 \ 373 و 374) ، ومسلم (2942) (119 و 120) ، وأبو داود (4366) ، وابن ماجه (4074) .

                                                                                              [ ص: 294 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 294 ] (16) ومن باب : حديث الجساسة

                                                                                              حديث فاطمة هذا في هذه الرواية مخالف للمشهور من حديثها في مواضع ، فمنها : قولها : فنكحت ابن المغيرة فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف . وظاهره أنها تأيمت عنه بقتله في الجهاد ، وهو خلاف ما تقدم في كتاب الطلاق أنها بانت منه بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وكذلك قالت في الرواية الأخرى المذكورة في هذا الباب . قالت : طلقني بعلي ثلاثا ، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي ، وهذا هو المشهور عند العلماء ، على ما قاله القاضي أبو الوليد الكناني وغيره ، وقد رام القاضي أبو الفضل تأويل هذا ، فقال : لعل قولها : أصيب في أول الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أرادت به عد فضائله وذكر مناقبه ، كما ابتدأت بالثناء عليه ، وهو قولها : من خير شباب قريش . قال : وإذا كان هذا لم يكن فيه معارضة .

                                                                                              [ ص: 295 ] ومنها : أن ظاهر قولها : أنه قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، في أوله . وقد اختلف في وقت وفاته ، فقيل : مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن إثر طلاقها ، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر . وقيل : بل عاش إلى أيام عمر ، وذكرت له معه قصة في شأن خالد بن الوليد ، ذكر ذلك البخاري في التاريخ ، وقد تقدم قول القاضي أبي الفضل : ولعل قولها : أصيب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير القتل ، إما بجرح ، أو بشيء آخر ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              ومنها : أنها قالت : فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : أمري بيدك ، فأنكحني من شئت ، فقال : " انتقلي إلى أم شريك " فظاهر هذا أنه أمرها بالانتقال إلى أم شريك ، ثم إلى ابن أم مكتوم ، إنما كان بعد انقضاء عدتها ، وبعد أن خطبت ، وفوضت أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الأمر كذلك ، وإنما كان ذلك في حال عدتها لما خافت عورة منزلها ، على المشهور ، أو لأنها كانت تؤذي أحماءها ، على ما قاله سعيد بن المسيب ، كما تقدم .

                                                                                              ومنها : أنها نسبت أم شريك إلى الأنصار ، وليس بصحيح ، وإنما هي قرشية من بني عامر بن لؤي ، واسمها غزية ، كذا وجدته مقيدا في أصل يعتمد عليه ، وكنيت بابنها شريك ، وقيل : اسمها : غزيلة ، حكى هذا كله أبو عمر .

                                                                                              ومنها : قوله : " ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم ، وهو رجل من فهر ، فهر قريش ، وهو من البطن الذي هي منه " . قال القاضي أبو الفضل : والمعروف خلاف هذا ، وليس بابن عمها ، بل هي من محارب بن فهر ، وهو من بني عامر بن لؤي ، وليسا من بطن واحد ، واختلف في اسم ابن أم مكتوم ، والصحيح : عبد الله .

                                                                                              و (قولها : فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر ) أي : فلما انقضت عدتها وحلت للأزواج ، وقد تقدم أن الأيم هي التي لا زوج لها .

                                                                                              [ ص: 296 ] و (قوله : أمري بيدك فأنكحني من شئت ) دليل على صحة الوكالة في النكاح .

                                                                                              و (قوله : " إني أكره أن يسقط عنك خمارك ، أو ينكشف الثوب عن ساقك ") دليل على أن أطراف شعر الحرة وساقيها عورة ، فيجب عليها سترها في الصلاة ، وقد تقدم ذلك .

                                                                                              [ ص: 297 ] و (قوله : ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر ") أي : لجؤوا إليها ، ومرفأ السفينة : حيث ترسي . يقال : أرفأت السفينة : إذا قربتها من الشط ، وذلك الموضع مرفأ ، وأرفأت إليه : لجأت إليه .

                                                                                              و (قوله : " فجلسوا في أقرب السفينة ") كذا الرواية المشهورة . قال الإمام : هي القوارب الصغار يتصرف بها ركاب السفينة ، والواحد قارب ، جاء هاهنا على غير قياس . وأنكر غيره هذا ، وقال : لا يجمع فاعل على أفعل . قال : وإنما يقال : الأقرب فيها : أقربات السفينة وأدانيها ; كأنه ما قرب منها النزول ، أو كأنه من القرب الذي هو الخاصرة ، ويؤيده أن ابن ماهان روى هذا الحرف فقال : في أخريات السفينة ، وفي بعضها : في آخر السفينة .

                                                                                              قلت : ويشهد لما قاله الإمام ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : " فقعدوا في قوارب السفينة " وهذا الجمع هو قياس قارب ، ويقال بفتح الراء وكسرها .

                                                                                              [ ص: 298 ] و (قوله : " فلقيتهم دابة أهلب ") أي : غليظة الشعر ، والهلب : ما غلظ من الشعر ، ومنه المهلبة ، وهو شعر الخنزير الذي يخرز به . وذكر أهلب حملا على المعنى ، وكأنه قال : حيوان أهلب أو شخص ، ولو راعى اللفظ لقال هلباء ، لأن قياس أهلب هلباء ، كأحمر وحمراء .

                                                                                              و (قوله : " ما أنت ؟ ") اعتقدوا فيها أنها مما لا يعقل ، فاستفهموا بـ " ما " ثم إنها بعد ذلك كلمتهم كلام من يعقل ، وعند ذلك رهبوا أن تكون شيطانة ; أي : خافوا من ذلك .

                                                                                              و (قوله : " أنا الجساسة ") بفتح الجيم وتشديد السين الأولى . قيل : سمت نفسها بذلك لتجسسها أخبار الدجال ، من التجسس ، بالجيم ، وهو الفحص عن الأخبار والبحث عنها ، ومنه الجاسوس . وقد روي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما - أن هذه الدابة هي دابة الأرض التي تخرج للناس في آخر الزمان فتكلمهم .

                                                                                              [ ص: 299 ] و (قوله : " قد قدرتم على خبري ") أي : اطلعتم عليه ، وقدرتم على الوصول إليه .

                                                                                              و (قوله : " صادفنا البحر قد اغتلم ") أي : قد هاج ، وجاوز حده ، ومنه الغلمة ، وهي شدة شهوة النكاح . وبيسان ، بفتح الباء ، ولا تقال بالكسر . وزغر : بالزاي المضمومة والغين المعجمة على وزن نغر ، وهما معروفان بالشام . ونبي الأميين ، هو محمد صلى الله عليه وسلم والأميون العرب ; لأن الغالب منهم لا يكتب ولا يحسب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " . فكأنهم باقون على أصل ولادة الأم لهم ، فنسب الأمي إليها . هذا أولى ما قيل فيه . وقد تقدم القول في تسمية المدينة طيبة وطابة ، وأن كل ذلك مأخوذ من الطيب .

                                                                                              و (قوله : " استقبلني ملك بيده السيف صلتا ") أي : مجردا عن غمده . قال ابن السكيت : فيه لغتان ، فتح الصاد وضمها . والمخصرة ، بكسر الميم : عصا ، أو قضيب كانت تكون مع الملك إذا تكلم ، وقد تقدم ذكرها .

                                                                                              [ ص: 300 ] و (قوله : " ألا إنه في بحر الشام ، أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ") ما هو هذا كله كلام ابتدئ على الظن ، ثم عرض الشك ، أو قصد الإبهام ، ثم نفى ذلك كله وأضرب عنه بالتحقيق ، فقال : لا ، بل من قبل المشرق ، ثم أكد ذلك بـ (ما) الزائدة ، وبالتكرار اللفظي ، فـ (ما) فيه زائدة لا نافية ، وهذا لا بعد فيه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يظن ويشك ، كما يسهو وينسى ، إلا أنه [ ص: 301 ] لا يتمادى ، ولا يقر على شيء من ذلك ، بل يرشد إلى التحقيق ، ويسلك به سواء الطريق . والحاصل من هذا : أنه صلى الله عليه وسلم ، ظن أن الدجال المذكور في بحر الشام ; لأن تميما إنما ركب في بحر الشام ، ثم عرض له أنه في بحر اليمن ; لأنه يتصل ببحر متصل ببحر اليمن ، فيجوز ذلك . ثم أطلعه العليم الخبير على تحقيق ذلك فحقق وأكد . وتاهت السفينة : صارت على غير اهتداء . والتيه : الحيرة . والرواق : سقف في مقدم البيت ، ويجمع في القلة : أروقة ، وفي الكثرة : روقا .




                                                                                              الخدمات العلمية