الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
222 169 - (222) - (1 \ 33 - 34) عن ابن عباس، قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتين قال الله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [التحريم: 4]، حتى حج عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! - قال الزهري: كره، والله، ما سأله عنه ولم يكتمه عنه - قال: هي حفصة وعائشة.

قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن، وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟

[ ص: 155 ] لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا ، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة - .

قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوما، ثم أتاني عشاء فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت:وماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائنا.

حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما له أسود، فقلت استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج علي ، فقال: قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمل حصير - وحدثناه يعقوب في حديث صالح قال: رمال حصير - قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: " لا " فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج

[ ص: 156 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، فدخلت على حفصة، فقلت: لا يغرك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: " نعم ". فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا، ثم قال: " أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، حتى عاتبه الله - عز وجل
- .

التالي السابق


* قوله: "اللتين قال الله تعالى" : أي: فيهما.

* "عدل" : أي: مال عن وسط الطريق.

* "فتبرز" : أي: ذهب لقضاء الحاجة.

* "فسكبت" : أي: صببت.

* "واعجبا لك" : لفظة "وا" اسم فعل بمعنى التعجب، فنصب "عجبا" على أنه مصدر له، كأنه قال: عجبت عجبا كائنا لك; أي: متعلقا بك، بمعنى: أنه منك; كأنه تعجب من خفاء هذا الأمر عليه مع قربه وكثرة بحثه، ومقتضى كلام الزهري أنه تعجب من جرأته على السؤال عن الأسرار.

* "معشر قريش" : نصبه على الاختصاص، ونصب "قوما" على أنه خبر "كنا"، والمعشر: جماعة يشملها وصف; كالنوع والجنس.

* "فطفق" : أي: شرع.

[ ص: 157 ] * "يتعلمن" : الغلبة على الرجال.

* "فتغضبت" : أي: أظهرت الغضب، وهو محتمل أن يكون على صيغة المتكلم، أو المؤنثة الغائبة، وعلى الثاني لفظة "علي" - بالتشديد - .

* "ما تنكر أن أراجعك" "ما" الاستفهامية مفعول "تنكر"، و"أن أراجعك" بتقدير: لأن أراجعك، علة له، ويمكن أن يجعل بدلا من "ما" بلا تقدير، كأنها قالت: أي شيء تنكر مراجعتي إياك؟

* "ليراجعنه" : - بفتح اللام.

* "تهجره" : أي: تترك التكلم معه.

* "قد خاب" : إخبار أو دعاء.

* "أن كانت" : - بفتح "أن" - فاعل "لا يغرنك"، ويمكن - الكسر - على أنه شرط، والتقدير: إن كانت جاريتك كذا، فلا يغرنك ذاك; لتقديرين، فالفاعل حقيقة تسبب عن الكون من الفعل، وليست الكون; أي: لا يغرنك ما تفعل عائشة لكونها أوسم، والمراد بالجارة: الضرة، وهي عائشة.

* "أوسم" : أحسن منك; أي: من غيرها من الأزواج.

* "نتناوب" : أي: ننزل بالنوبة.

* "نتحدث" : على بناء المفعول.

* "تنعل" : من نعل كمنع، أو أنعل.

في "القاموس": نعل الدابة; كمنع: ألبسها النعل; كأنعلها.

* "شددت علي" : - بتشديد الياء - ; أي: ربطتها على بدني لأتمكن من الجري.

[ ص: 158 ] * "في هذه المشربة" : - بفتح ميم وسكون معجمة، وضم راء، وتفتح - ; أي: الغرفة.

* "فصمت" : أي: سكت.

* "يبكي بعضهم" : إما لهذه الحادثة، أو لأمر آخر.

* "فوليت مدبرا" : أي: انصرفت.

* "على رمل حصير" : هو - بفتح راء وسكون ميم - ، وفي رواية: "رمال" - بكسر الراء - ، يقال: رملت الحصير، وأرملته: إذا نسجته.

* "قد أثر" : من التأثير; أي: ظهر أثره في جنبه".

* "الله أكبر" : تعظيما لما سمع من خلاف الواقع.

* "أستأنس؟" : أي: أزيد في الكلام لزيادة المؤانسة.

قال النووي - رحمه الله تعالى - : وفيه أن الإنسان إذا رأى صاحبه مهموما، وأراد إزالة همه ومؤانسته بما يشرح صدره ويزيل همه، ينبغي له أن يستأذنه في ذلك; كما فعل عمر، ولأنه قد يأتي بالكلام بما لا يوافق.

* "يرد البصر" : يرجع البصر عن رؤيته إلى الرائي.

* "إلا أهبة" : - بفتحتين أو بضمتين - : جمع إهاب - بكسر الهمزة - ، وهو الجلد مطلقا، أو غير المدبوغ.

* "أفي شك؟!" : من الآخرة حتى تطلب التوسعة في الدنيا؟

* "عجلت لهم" : من التعجيل، واحتج به من يفضل الفقير على الغني; لدلالته على أن الغني قد عجل له مما كان مذخورا له في الآخرة، فينتقص منه في الآخرة بقدره.

[ ص: 159 ] وأجاب من خالفه بأن المراد: أن حظ الكافر هو ما ناله من نعيم الدنيا، ولا حظ له في الآخرة.

* "أقسم" : أي: حلف.

* "من شدة موجدته" : أي: غضبه.

* * *




الخدمات العلمية