الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
15371 6700 - (15798) - (3\460 - 461) عن ابن إسحاق، قال: فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بني سلمة، أن أخاه عبيد الله بن كعب، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعب بن مالك، وكان كعب ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فلما توجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إني قد رأيت والله رأيا، وإني والله ما أدري توافقوني عليه أم لا، قال: قلنا له: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه [ ص: 25 ] البنية مني بظهر، يعني الكعبة، وأن أصلي إليها، قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه ، فقال: إني أصلي إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، قال أخي: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة عليه، فلما قدمنا مكة قال: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه .

قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجل من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه؟ قال: قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم، قال: وكنانعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه جالس فسلمنا، ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: " هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ " قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشاعر؟ " قال: نعم، قال: فقال البراء بن معرور: يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا، وهداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: " لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها " قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معنا إلى الشام، قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم .

قال: وخرجنا إلى الحج، فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا [ ص: 26 ] عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من سادتنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوته إلى الإسلام، وأخبرته بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع .

قال: فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج، قال: وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها، إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك، ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم " قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر .

قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا [ ص: 27 ] قاطعوها - يعني العهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم أنا منكم، وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم "، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم "، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس . وأما معبد بن كعب فحدثني في حديثه، عن أخيه، عن أبيه كعب بن مالك - قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب: المنازل - هل لكم في مذمم والصباة معه؟ قد أجمعوا على حربكم ـ قال علي يعني ابن إسحاق ما يقوله عدو الله محمدـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أزب العقبة هذا ابن أنيب، اسمع أي عدو الله أما والله، لأفرغن لك " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفعوا إلي رحالكم " قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أؤمر بذلك " .

قال: فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، قال: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا، يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا، قال: فبعضنا ينظر إلى بعض، قال: وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان، قال: فقلت [ ص: 28 ] كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيد من سادتنا أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش، فسمعها الحارث فخلعهما، ثم رمى بهما إلي، فقال: والله لتنتعلنهما قال: يقول أبو جابر: أحفظت - والله - الفتى ، فاردد عليه نعليه، قال: فقلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه .


فهذا حديث كعب بن مالك من العقبة وما حضر منها .

التالي السابق


* قوله : "وقد صلينا" : أي : كنا مسلمين نصلي .

* "وفقهنا" : - بضم القاف - ; أي : صرنا فقهاء .

* "عبنا" : - بكسر العين - ، من العيب .

* "أنطلق" : بصيغة المتكلم ، أو بصيغة الأمر; أي : معي .

* وقوله : "فأسأله" : بصيغة المتكلم بالنصب على الثاني ، والرفع على الأول .

* "فواعدنا" : صيغة المتكلم والغائب ، والفاعل على الثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قوله : "وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

* "وإنا نرغب بك عما أنت فيه" : الباء للتعدية ، أو بمعنى "في"; أي : نرغبك عن دين الشرك ، أو نرغب في شأنك عن دين الشرك; أي : عن بقائك فيه; أي : لا نحبه .

* "أن تكون" : أي : خشية أن تكون .

* "نتسلل" : أي : نخرج بتأن وتدريج وخفية .

* "القطا" : - بفتح القاف - : طائر .

* "نسيبة" : - بالتصغير - : هي غير أم عطية .

* "منا" : بني هاشم .

[ ص: 29 ] * "حيث قد علمتم" : أي : في المنزلة التي قد علمتموها .

* "أزرنا" : - بضمتين ، أو بسكون الثاني - : جمع إزار; أي : عوراتنا .

* "فاعترض القول" : - بالنصب - ، الفاعل :

* "أبو الهيثم" : - بفتح فسكون - .

* "ابن التيهان" : - بفتح التاء المثناة من فوق أو كسرها وسكون الياء المثناة من تحت - .

* "والهدم الهدم" : - بفتحتين أو بسكون الثاني - .

في "النهاية" : روي بهما ، وهو القبر ، أي أقبر حيث تقبرون ، وقيل : المنزل; أي : منزلي منزلكم ، نحو : "المحيا محياكم ، والممات مماتكم"; أي : لا أفارقكم ، والهدم - بالفتح والسكون - أيضا .

* "هدر" : دم القتيل ، يقال : دماؤهم بينهم هدر; أي : مهدرة; أي : طالب دمكم طالب دمي; أي : إن طلب أحد دمكم ، فقد طلب دمي ، وإن هدر دمكم ، فقد هدر دمي; لاستحكام الألفة بيننا .

* "اثنا عشر" : الظاهر : اثني عشر كما في "المجمع" ، وكأنه بتقدير : فليخرج منكم اثنا عشر نقيبا .

* "سمعته" : يحتمل التكلم والخطاب .

* "الجباجب" : ضبط : - بجيمين وباءين موحدتين - ، وفي "المجمع" : هي جمع جبجب - بالضم - ، وهو المستوي من الأرض ، ليس بحزن ، وهي اسم لمنازل بمنى ; لأن كروش الأضاحي تلقى فيها ، والجبجبة : الكرش مع اللحم يتزود في السفر .

[ ص: 30 ] * "في مذمم" : - بفتح الميم المشددة - .

* "والصباة" : - بضم الصاد - ، وكانوا يقولون للمسلمين : الصباة ، ويقولون له صلى الله عليه وسلم ما هو ضد اسمه ووصفه صلى الله عليه وسلم .

* "أزب العقبة" : - بتشديد الباء - : اسم شيطان كان بالعقبة .

وفي "المجمع" : هو شيطان اسمه أزب ، وهو الحية ، والأزب لغة : كثير الشعر ، واسم رجل من الجن .

وفي "القاموس" : الأزب : من أسماء الشياطين ، ومنه حديث ابن الزبير مختصرا : أنه وجد رجلا طوله شبران ، فأخذ السوط فأتاه ، فقال : من أنت؟ قال : أزب ، قال : ما أزب؟ قال : رجل من الجن ، فقلب السوط فوضعه في رأس أزب حتى باض; أي : فاته واستتر ، وفي حديث العقبة : "هو شيطان اسمه أزب العقبة" .

* "ابن أزيب" : هو بين الصبا ، والعداوة ، والقنفذ ، واللئيم ، والأمر المنكر ، والشيطان .

* "أسمع" : أمر من الإسماع ، وهو بيان قلة المبالاة بشأنه ، وضبطه بعضهم أمرا من السماع .

* "لأفرغن" : صيغة المتكلم ، من الفراغ .

* "جلة قريش" : - بكسر فتشديد - .

* "أن تنشب الحرب" : - بالتاء المثناة من فوق لا بالنون - ، يقال : نشبت الحرب بينهم نشوبا; أي : اشتبكت .

* "أحفظت" : أغضبت .

[ ص: 31 ] * "والله صلح" : هكذا في نسخ "المسند" .

وفي "المجمع" بعد تمام الحديث : رواه أحمد ، والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق ، وقد صرح بالسماع ، وقال الطبراني في حديثه : فقلنا له : تدلنا على محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال : فهل نفر؟ فإنه إذا رأيتماه ، وقال أيضا : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخرجوا منكم اثني عشر نقيبا ، فأخرجهم ، فكان نقيب بني النجار أسعد بن زرارة ، وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وكان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وكان نقيب بني زريق رافع بن مالك بن العجلان ، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبادة بن الصامت ، ونقيب بني عبد الأشهل أسيد بن حضير ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة ، انتهى .

قلت : وهؤلاء عشرة ، وبقي نقيبان ، والله تعالى أعلم .

* * *

[ ص: 32 ] سويد بن النعمان

أنصاري ، يكنى : أبا عقبة ، شهد أحدا ، وبيعة الرضوان .

* * *




الخدمات العلمية