الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
652 [ 481 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا مالك، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب قال: أتى أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتف شعره ويضرب نحره ويقول: هلك الأبعد.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟

قال: أصبت أهلي في رمضان وأنا صائم.

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تستطيع أن تعتق رقبة؟

قال: لا.

قال: فهل تستطيع أن تهدي بدنة؟

قال: لا.

قال: "فاجلس" فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرق تمر فقال: خذ هذا فتصدق به.

فقال: ما أجد أحدا أحوج مني. قال: "فكله وصم يوما مكان ما أصبت".
.

قال عطاء: فسألت سعيدا كم في ذلك العرق؟

فقال: ما بين خمسة عشر صاعا إلى عشرين .

التالي السابق


الشرح

عطاء الخراساني: هو عطاء بن أبي مسلم عبد الله، مولى المهلب بن أبي صفرة، من أهل بلخ سكن الشام.

وسمع: عبد الله بن بريدة، وسعيد بن المسيب.

[ ص: 195 ] وروى عنه: معمر، ومالك. مات سنة خمس وثلاثين ومائة .

والحديثان مودعان في الموطأ كما رواه الشافعي لكن حديث أبي هريرة اختصره بعض الرواة، [ونحو] منه ما رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب، ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة، والترمذي عن نصر بن علي الجهضمي وغيره عن ابن عيينة، وأبو داود عن مسدد عن ابن عيينة، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة، بروايتهما -أعني شعيبا وابن عيينة- عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بعرق فيه تمر فقال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك.

وإذا عرف تمام الحديث لم يخف أن قوله في رواية الكتاب: [ ص: 196 ] "فأمره بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا" المراد منه الترتيب كما يقال [كفارة] الظهار الإعتاق أو الصيام أو الإطعام ويراد أن التكفير بإحدى الخصال، ثم لكل وقت وشرط، وعن مالك أن كفارة الوقاع في رمضان على التخيير.

وقوله في الرواية الأخرى: "ينتف شعره ويضرب نحره" يبين استعظامهم الحرام وشدة خوفهم منه.

وقوله: "هلك الأبعد" أي: الذي بعد من الخير والعصمة.

والعرق بفتح العين والراء فسر في الحديث بالمكتل: وهو الزنبيل المنسوج من الخوص، ويقال لكل مضفور عرق، ويقال بدل "العرق" عرق وهو جمع عرقة وهي الضفيرة من الخوص، ثم في بعض الروايات: "فأتي بعرق فيه خمسة عشر صاعا" ويقرب منه ما في الرواية الثانية عن عطاء أنه قال: "سألت سعيدا كم في ذلك العرق" كأنه يريد فيما بلغك ويروى لك، فقال: ما بين خمسة عشر صاعا إلى عشرين. وعن محمد بن إسحاق بن [يسار] أن العرق مكتل تسع ثلاثين صاعا ، وقيل: ستين صاعا; والأشبه أن العرق كان في ذلك الوقت يختلف صغيرا وكبيرا على ما هو المعهود اليوم فإنه مكتل لا مكيال، وبتقدير أن يعد مكيالا وإنما يقيد التقدير رواية من روى أنه أتي بعرق تمر دون رواية من روى أنه أتي بعرق فيه تمر.

وقوله: "فهل تستطيع أن تهدي بدنة" في الرواية الثانية لا ذكر له في الروايات الموصولة والأخذ بالموصول أولى من الأخذ بالمنقطع.

[ ص: 197 ] وقوله: "ما بين لابتيها" يريد طرفي المدينة وقد ورد التفسير في الحديث.

وقوله: "حتى بدت ثناياه" كذا هو في رواية الشافعي، ورأيت مثله في مسند أبي داود، ورواية الجمهور: "حتى بدت أنيابه" وكذا هو في الموطأ. والثنايا: الأسنان الأربع في مقدم الفم، اثنتان من الأعلى واثنتان من الأسفل ويليها أربع يقال لها: رباعيات، ويليها الأنياب وهي جمع ناب، والأنياب أليق فإن المقصود أنه بالغ في الضحك، ومن روى الثنايا فالمعنى أنه ضحك بقدر ما بدت ثناياه وهو التبسم، وكان جل ضحكه - صلى الله عليه وسلم - التبسم .

وقوله: "كله" وفي رواية: "أطعمه أهلك" قيل فيه: أنه كان يجوز صرف الكفارة إلى الأهل ثم نسخ، وقيل: كان التجويز مخصوصا بذلك الرجل، والأحسن ما أشار إليه الشافعي وهو أن الرجل وجبت عليه الكفارة وكان عاجزا عن جميع خصالها فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيه ما يصرفه في الكفارة، فذكر أنه من أحوج الناس فلم ير له أن يتصدق به، وأمره بأن يتركه لنفسه وعياله وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يقدر.

قوله: وصم يوما مكان ما أصبت يدل على أنه يجب القضاء مع الكفارة، وهو ظاهر المذهب، وعلى أن يوما من رمضان يقضى يوم، وعن ربيعة أنه يقضي يوما باثني عشر يوما; لأن الله تعالى اختار الشهر من اثني عشر شهرا، واحتج محتجون بالحديث على أنه يجوز للإمام [ ص: 198 ] ترك التعزير في حقوق الله تعالى فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعزر الرجل، وعلى أنه لا يجب بالجماع إلا كفارة واحدة، واحتج برواية من روى أنه كان في العرق خمسة عشر صاعا على أنه يجب في الإطعام لكل مسكين مد لأن خمسة عشر صاعا إذا قسمت على ستين حصل لكل واحد منهم; لأن الصاع أربعة أمداد; لكن لا قوة لهذا الاحتجاج; لأنه قال: فتصدق به ويجوز أن يكون الواجب أكثر من ذلك وأمر بالتصدق بذلك القدر على بعض الستين أو بتوزيعه على الستين إلى أن يجد الباقي، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يجب لكل مسكين نصف صاع من الحنطة وصاع من سائر الحبوب، ومنهم من أطلق وجوب التصدق بصاع.




الخدمات العلمية