الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5742 6093 - حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس.

                                                                                                                                                                                                                              وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يخطب بالمدينة فقال: قحط المطر فاستسق ربك، فنظر إلى السماء وما نرى من سحاب، فاستسقى، فنشأ السحاب بعضه إلى بعض، ثم مطروا حتى سالت مثاعب المدينة، فما زالت إلى الجمعة المقبلة ما تقلع، ثم قام ذلك الرجل أو غيره والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: غرقنا، فادع ربك يحبسها عنا. فضحك ثم قال: " اللهم حوالينا ولا علينا". مرتين أو ثلاثا،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 450 ] فجعل السحاب يتصدع عن المدينة يمينا وشمالا، يمطر ما حوالينا، ولا يمطر منها شيء، يريهم الله كرامة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإجابة دعوته.
                                                                                                                                                                                                                              [انظر: 932 - مسلم: 897 - فتح: 10 \ 504]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وقالت فاطمة - رضي الله عنها - : أسر إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحكت. سلف مسندا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن الله - عز وجل - هو أضحك وأبكى.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر في الباب أحاديث كثيرة فيها:

                                                                                                                                                                                                                              أنه - عليه السلام - ضحك، وفي بعضها أنه تبسم، منها: حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة رفاعة، وما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التبسم. وفيه: وابن سعيد بن العاصي جالس بباب الحجرة ليؤذن له، هو خالد بن سعيد، وفي نسخة أبي محمد، عن أبي أحمد: وسعيد بن العاصي، والصواب الأول.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث (أبي العباس) عن عمر في استئذانه وأنه دخل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث عبد الله بن عمر لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائف، وفي آخره فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحميدي: حدثنا سفيان بالخبر كله، وأبو العباس اسمه: السائب بن فروخ، الشاعر المكي الأعمى. وعبد الله بن عمر هو ابن الخطاب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 451 ] وفي مسلم والنسائي عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو، يعني: ابن العاص ، كذا قاله خلف الواسطي.

                                                                                                                                                                                                                              هو في البخاري: عبد الله بن عمر، وفي (مسلم) : ابن عمرو. قال الدمياطي: ابن العاصي أشبه; لأن السائب قد روى عنه عدة أحاديث، وليس عن ابن عمر سوى هذا الحديث على الخلاف المذكور .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الذي وقع على أهله في رمضان، أنه - عليه السلام - ضحك حتى بدت نواجذه.

                                                                                                                                                                                                                              و (النواجذ) آخر الأسنان وهي أسنان الحلم عند العرب.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث أنس في قصة البرد، وفيه: فضحك.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث جرير: ولا رآني إلا تبسم في وجهي.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث أم سلمة، عن أم سليم : "نعم إذا رأت الماء" فضحكت أم سلمة فقالت: أتحتلم المرأة؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فبم شبه الولد؟ ".

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث عائشة: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: ثنا محمد بن محبوب: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 452 ] وقال لي خليفة: ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس في قصة الاستسقاء "اللهم حوالينا ولا علينا" وفيه: فضحك.

                                                                                                                                                                                                                              ومحمد بن محبوب هذا هو محمد بن الحسن،
                                                                                                                                                                                                                              ولقب الحسن: محبوب بن هلال بن أبي زينب أبو جعفر، وقيل: أبو عبد الله القرشي البناني البصري، روى عنه (البخاري وأبو داود) ، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين (ويقال: سنة اثنين وعشرين) ، وروى [النسائي] عن رجل عنه .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: إن حديث النواجذ خلاف ما حكته عائشة أنها لم تره مستجمعا ضاحكا حتى تبدو لهواته، ولا تبدو النواجذ - على ما قال أبو هريرة - إلا عند الاستغراق في الضحك وظهور اللهوات. قيل: ليس هذا بخلاف; لأن أبا هريرة شهد ما لم تشهد عائشة وأثبت ما ليس في خبرها والمثبت أولى، وذلك زيادة يجب الأخذ بها. وليس في قول عائشة قطع منها أنه لم يضحك قط حتى تبدو (لهواته) في وقت من الأوقات. وإنما أخبرت بما رأت، كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين مختلفين.

                                                                                                                                                                                                                              ووجه تأويل هذه الآثار - والله أعلم - أنه كان - عليه السلام - في أكثر أحواله يتبسم، وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم، وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات هذا كان شأنه - عليه السلام - ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 453 ] وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، ويجري على عادة البشر في ذلك; لأنه - عليه السلام - قد قال: "إنما أنا بشر" فبين لأمته بضحكه الذي بدت فيه نواجذه أنه غير محرم على أمته.

                                                                                                                                                                                                                              وبان بحديث عائشة أن التبسم والاقتصار في الضحك هو الذي ينبغي لأمته فعله والاقتداء به فيه للزومه - عليه السلام - له في أكثر أحواله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه وجه آخر: من الناس من يسمي الأنياب والضواحك نواجذ، واستشهد بقول الشاعر لبيد:


                                                                                                                                                                                                                              وإذا الأسنة أسرعت لنحورها أبرزن حد نواجذ الأنياب



                                                                                                                                                                                                                              فتكون النواجذ: الأنياب على معنى إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك جائز إذا اختلف اللفظان، ومن إضافة الشيء إلى نفسه قوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16] و وحب الحصيد ، وقولهم: مسجد الجامع. وقول رؤبة:

                                                                                                                                                                                                                              إذا استعيرت من جفون الأغماد

                                                                                                                                                                                                                              والجفون: هي الأغماد، وإضافة الشيء إلى نفسه مذهب الكوفيين، وقد وجدنا النواجذ يعبر بها عنها بالأنياب. وفي حديث المجامع في رمضان كما سلف، ووقع في الصيام: (حتى بدت أنيابه) فارتفع اللبس بذلك، وزال الاختلاف بين الأحاديث.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: وهذا الوجه أولى، وهذا الباب يرد ما روي عن الحسن البصري: أنه كان لا يضحك. وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن في جماعة ولا في أهله ولا وحده ضاحكا قط

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 454 ] إلا متبسما. ولا أحد زهد كزهد سيد الخلق، وقد ثبت عنه أنه ضحك. وكان ابن سيرين يضحك، ويحتج على الحسن بقول الله هو أضحك وأبكى . وكان الصحابة يضحكون، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: سئل ابن عمر - رضي الله عنه - هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال . وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المهديين الأسوة الحسنة. وأما المكروه من هذا الباب فهو الإكثار من الضحك، كما قال لقمان لابنه: يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. فالإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل أهل السفه والبطالة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل: في الإشارة إلى بعض ألفاظ وقعت في هذه الأحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              الذي أسنده إلى فاطمة إنها سيدة نساء أهل الجنة وأول أهله لحوقا به .

                                                                                                                                                                                                                              و (الهدبة) والهدب: ما على أطراف الثوب، والمراد بالذوق - فيه - : الإيلاج لا الإنزال، وبه قال العلماء كافة. وانفرد سعيد فاكتفى بالعقد كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إيه يا ابن الخطاب). هو بكسر الهمزة (والهاء) إذا استزدت في الحديث، فإن وصلت نونت أي: هات حديثا ما، فإذا سكنته وخففته قلت إيها عنا، إن أردت التبعيد قلت: أيها بفتح الهمزة بمعنى: هيهات. قال ابن التين: وقرأناه بالكسر والتنوين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 455 ] ولعل معنى الحديث عليه: ردها أنت يا ابن الخطاب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إلا سلك فجا غير فجك") الفج: الطريق الواسع بين الجبلين، ولم يقيده ابن فارس بذلك، بل قال: إنه الطريق الواسع. فقط .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              "قافلون": راجعون، والقفول: الرجوع من السفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فقال ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا نبرح أو نفتحها). ضبط (نفتحها) بالرفع وصوابه النصب، كما ضبطه الدمياطي خطا، ونبه عليه ابن التين; لأن أو إذا كانت بمعنى حتى أو إلا أن تنصب، وقرأ تقاتلونهم أو يسلمون [الفتح: 16] وكذا إذا كانت بمعنى كي، ولا يصح ذلك في هذا الموضع أن تكون بمعنى كي، وإنما هي بمعنى حتى أو إلا. وقد قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                              فقلت له: لا تبك (عينك) إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا



                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (العرق) - بفتح الراء - : المكتل الممسوح قبل أن يجعل منه الزنبيل، و (الفرق) - بالفاء: مكتل يسع ثلاثة (آصع) بفتح رائه وإسكانها. و (اللابة): الحرة، وهي أرض تركبها حجارة سود، وهما حرتان تكتنفان المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (بدت نواجذه): ظهرت، واختلف في عدد النواجذ

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 456 ] وتعيينها: فقال الأصمعي: هي الأضراس، فهي على هذا عشرون. وقيل: هي أربع. ثم اختلفوا فقيل: الأنياب. وقد سلف رواية: "حتى بدت أنيابه" وقيل: المضاحك، وهي السن التي تلاصق الأنياب من داخل الفم، وهي نيبان من اليمين: واحدة من فوق، وأخرى من أسفل. ونيبان من الشمال كذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا أشهر الأقوال - كما قاله ابن التين - وهو ظاهر الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبد الملك والجوهري: أحد النواجذ: ناجذ، وهو أحد الأضراس، ويسمى ضرس الحلم; لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: يقال ضحك حتى بدت نواجذه إذا استغرق فيه . ويبعد حمل الحديث على هذا القول.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              اللهوات: جمع لهاة: وهي المطبقة في أقصى سقف الفم، وتجمع أيضا على لهى ولهيات، قاله الجوهري . وقال ابن فارس: هي اللحمة (المشرفة) على الحلق، قال: ويقال: بل هو أقصى الحلق . وقال الداودي: هي ما دون الحنك إلى ما يلي الحلق وما فوق الأضراس من اللحم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 457 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (قحط المطر): هو بفتح الحاء، وحكى الفراء: كسرها. وأقحط رباعي. ذكره الجوهري .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (نشأ السحاب بعضه إلى بعض). قال ابن فارس والجوهري: نشأ السحاب إذا ارتفع. وقال الهروي: ابتدأ وارتفع .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (حتى سالت مثاعب المدينة). أي: تفجرت، والمثعب: بالفتح واحد مثاعب الحياض، وانثعب الماء جرى في المثعب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ما يقلع) أي: ما يرتفع.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ثم قام ذلك الرجل أو غيره). سلف أنه ذلك الرجل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "حوالينا" هو بفتح اللام، قال الجوهري: لا نقله بالكسر.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه من الفقه الواضح: جواز الاستسقاء في المسجد وعلى المنبر، وجواز الاستصحاء أيضا.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية